العدالة للسوريين
8- دروس أمم أخرى في الصراع والعدالة
سلسلة يكتبها منصور العمري
في المقال السابق ناقشت عدم إمكانية تحقيق العدالة للسوريين داخل سوريا، بجميع أشكالها بما فيها العدالة الانتقالية، طالما يقبع نظام الأسد على سدة الحكم في سوريا، مسيطرًا على أجهزة الدولة القضائية والتشريعية والتنفيذية، فهو لن يحاكم نفسه.
سأتحدث هنا عن تجارب أمم أخرى باختصار، مع التركيز على النقاط الرئيسة في كل تجربة، وأوجه الشبه مع الحالة السورية. يمكن العودة إلى المراجع أدناه لمزيد من التفاصيل حول هذه التجارب.
لم تبدأ عمليات العدالة الانتقالية في أشهر أمثلتها في دول العالم إلا بعد هزيمة أو سقوط النظام أو المجموعة المرتكبة للجرائم، عسكريًا أو سياسيًا.
رواندا
عام 1994، حين كانت سوريا تئنّ تحت حكم حافظ الأسد، وإعلامه وحيد القناة، لم يسمع السوريون عن مقتل مليون رواندي خلال مئة يوم، ولم يقرؤوا عن أهوال هذه الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا، التي استهدف فيها كثيرون من عرق الهوتو نحو مليون شخص من عرق التوتسي، بتوجيه من النظام الحاكم المنتمي للهوتو، وإعلامه الذي استخدم الراديو والصحف لتأجيج الكراهية ضد عرق التوتسي بوصفهم مثلًا بـ “الصراصير”. كان السبب المباشر لإطلاق هذه الإبادة الجماعية هو مقتل الرئيس الرواندي، الذي زعم الهوتو أنه اغتيل على يد جماعة مسلحة من التوتسي.
رغم وجود قوات من الأمم المتحدة وبلجيكا إلا أنها لم تتدخل لوقف الإبادة الجماعية، التي لم تنته إلا بسيطرة قوات مسلحة من التوتسي على العاصمة، بدعم من دولة أوغندة، ثم تأسيسها لحكومة توافقية.
هزيمة الهوتو هي ما فسح المجال لمرحلة جديدة في البلاد وإطلاق عملية العدالة الانتقالية، رغم أنه تخللها كثير من التسييس وتعرضت لانتقادات عديدة. تأسست محكمة رواندا الدولية بطلب من حكومة رواندا، وضمّت في صلاحياتها محاسبة الأشخاص المسؤولين عن الجرائم أدناه، إن ارتكبت كجزء من هجوم واسع وممنهج على أي من المدنيين لأسباب عرقية أو دينية، وأضافت إليها الأسباب السياسية، وهو ما ينطبق على جرائم نظام الأسد ضد المدنيين في سوريا:
القتل، الإبادة، الاسترقاق، السجن، التعذيب، الاغتصاب، الاضطهاد لأسباب سياسية، سائر الأفعال غير الإنسانية.
دولة جنوب إفريقيا
بعد نحو 50 عامًا من سيطرة نظام الفصل العنصري في دولة جنوب إفريقيا، سقط هذا النظام رسميًا عام 1994، بجهود شعبية وضغط دولي بريطاني وأمريكي بالمقام الأول. قام نظام الأبارتايد أو الفصل العنصري على سيطرة أقلية بيضاء على الأغلبية في هذا البلد الإفريقي، وارتكب فيها أبشع المجازر والجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان.
بعد سقوط هذا النظام، انطلقت عملية العدالة الانتقالية بتأسيس “لجنة الحقيقة والمصالحة” عام 1995، التي أنشأها البرلمان. تضمن تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة الذي نشر عام 1998 شهادات أكثر من 22 ألفًا من الضحايا والشهود، نحو ألفين منها كانت علنية في جلسات استماع عامة، لكن هذه العملية وصفت بالنهاية أنها بلا جدوى ولم تقدم ما هو مطلوب منها، وكانت استعراضية أكثر منها استعادة لحقوق الضحايا وتعويضهم.
الأرجنتين
نفذ العسكر انقلابًا في الأرجنتين عام 1976، وحكموا البلاد بيد من حديد، بإجراءات مشابهة لانقلاب حافظ الأسد في سوريا، لكن النظام الديكتاتوري في الأرجنتين سقط عام 1983. خلال فترة سيطرته نكل هذا النظام بمعارضيه، وأخفى نحو 30 ألفًا قسرًا، في حملة من الإرهاب والتعذيب والاختطاف. بعد سقوطه بدأت الأرجنتين مرحلة طويلة وصعبة لمواجهة إرث هذه الانتهاكات ولتدعيم سيادة القانون، فأسست “اللجنة الوطنية المعنية بالإخفاء” بمرسوم رئاسي.
حاكمت اللجنة عددًا من المرتكبين، ثم تعرضت لإخفاقات ومعارضة من المرتكبين السابقين، وبعد ذلك تحول العمل للوصول إلى العدالة إلى عمل مدني مرتكزًا إلى نضال أصحاب الحق وأهالي الضحايا بأنفسهم في رفع الدعاوى وملاحقة المرتكبين قضائيًا، والذين لا يزالون يعملون حتى اليوم من أجل الوصول إلى العدالة.
تشيلي
أتى الجنرال أوغستو بينوشيه إلى حكم تشيلي بانقلاب عسكري عام 1973، وحكم البلاد بديكتاتورية مجرمة اضطهدت الأحزاب السياسية والمعارضين، مخلفًا نحو ثلاثة آلاف قتيل أو مفقود، وعذب نحو 28 ألفًا، ودفع نحو 200 ألف للهرب من البلاد إلى المنفى، ممارسًا إرهاب الدولة، وسميت هذه المجازر بـ “الإبادة السياسية” أو “بولتيسايد”.
سقط نظام بينوشيه لكنه لم يتعرض للمحاكمة حينها، لتسلمه منصب قائد الجيش وهو ما منحه حصانة، وفشلت جميع محاولات محاكمته حتى وفاته في مشفى عسكري عام 2006.
اتخذت حكومة تشيلي بعض الإجراءات للوصول للعدالة، لكن حتى اليوم لا يزال الضحايا يكافحون لرفع الدعاوى والوصول لحقوقهم.
العدالة الانتقالية ليست قالبًا جامدًا تستخدمه الأمم، ورغم تفاوت إجراءاتها وأهدافها الرئيسة إلا أنها وحسب التجارب السابقة غير ممكنة في سوريا الأسد. تحقيق العدالة هو أحد ضمانات عدم تكرار الجرائم. من حق جميع الضحايا المطالبة بالعدالة خارج سوريا، لاستحالتها في وطنهم الأم، ومن حقهم التمسك بعدم العودة إلى سوريا الأسد طالما لم يصلوا إلى العدالة، لأن عدم الوصول إليها يعني أن نظام الأسد لا يزال يشكل تهديدًا خطيرًا لهم، برفضه الاعتراف بجرائمه ومحاسبة المرتكبين، وبالتالي استمرار هذه الجرائم، وعدم إمكانية تصنيف سوريا بلدًا آمنًا لعودة أهله إليه.
هذا هو المعيار الحقيقي لإعادة اللاجئين، أما الرحلات المكوكية لبوتين ومحاولته إقناع الحكومات بإعادة اللاجئين مقابل تمويل إعادة إعمار سوريا أو لمصالح أخرى فلا تعدو كونها إضافة لاعتبار اللاجئين ورقة مفاوضات لا ملفًا مستقلًا وحساسًا. كما أن تصريحات الأسد وعصابته في رغبتهم بإعادة اللاجئين أقل قيمة من قذارة في أسفل حذاء طفل لاجئ، ولا قيمة لها حسب القوانين الدولية وشروط عودة اللاجئين.
مراجع
اللجنة الدولية للصليب الأحمر
الأمم المتحدة
محكمة رواندا الدولية
مركز العدالة الانتقالية
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :