إبراهيم العلوش
تعتمد تصورات بوتين عن المدينة الفاضلة في سوريا على تحويلها إلى سجن كبير، أو محمية مخابراتية، حيث تسيطر أجهزة القمع على معيشة الشعب في هذا النطاق الذي اسمه “سوريا الأسد”، ويستطيع السجانون التحكم بكل نزلاء هذا السجن، فسوريا في التصورات الروسية هي بلد الإرهابيين، وكل من لا يركع لسجانها الأول هو إرهابي، تلاحقه الطائرات الروسية، القديمة والحديثة، بصواريخها وبغازاتها الكيماوية، وتطارده على الأرض الميليشيات والفيالق الروسية والإيرانية، وتعمل هذه المليشيات مع الشبيحة على تشليح النزلاء، ونهب أملاكهم البسيطة، والتحكم بطعامهم وبأدويتهم، وتدمر كل مصدر خاص بهم للعيش أو للاستطباب، حيث تبحث الطائرات الروسية ليل نهار عن المستشفيات، وعن مستودعات الأدوية والطعام التي تعتبرها أهم من مستودعات الأسلحة، فإخضاع السكان وإرهابهم هو السلاح الفعال الذي اعتمدته الاستراتيجية الروسية لسَوق المواطنين المعتقلين إلى “حضن الأسد” لكتابة صكوك الاستسلام، ولإدارة السجن الكبير الذي اسمه “سوريا الأسد”!
الحل السياسي الذي تعرضه روسيا عبر كل المؤتمرات هو هذا التصور الروسي عن مزرعة الأقنان، التي كتب عنها الكاتب الروسي “ايفان تورغنيف” تحت عنوان “النفوس الميتة”، فالمملكة الأسدية التي ترعاها الدساتير والتصورات الروسية تشبه يوتوبيا تحويل البشر إلى أقنان يملكهم سيد واحد، يبيعهم ويشتريهم وفق هواه، كما فعل الأسد وهو يبيع سوريا للإيرانيين وللروس، ولمن يضمن بقاءه مع شبيحته في هذه البلاد، التي اعتبرها أبوه مزرعته الخاصة.
تطرح الدول أسسًا وقواعد وضوابط، بينما الروس لا يردون إلا بالفيتو وبقصف الطائرات. يتحدث مندوبو الدول في الأمم المتحدة عن أفكار وطرق للتسوية، ويرد المندوب الروسي بالفيتو، فالمدينة الروسية الفاضلة مكتملة التصور والمعالم، ولا تقبل في أذهان الحكام الروس أي إضافة، فهم مزجوا تجربتهم في التعامل مع الشعوب، اعتبارًا من إرث القيصرية التي تعتبر كل السكان عبارة عن أقنان عند القيصر، مرورًا بتجربة الاتحاد السوفياتي، الذي كانت روسيا تشكل ثمانين بالمئة منه، وكان معتقل الغولاغ أهم معالمه وإنجازاته في التعامل مع البشر، وهو عبارة عن سجن هائل يكاد أن يعادل مساحة سوريا اليوم. وكانت كلمة ربيع براغ ترعب طائراته وصواريخه، ومحطاته الفضائية، فما بالك بالرعب الذي يبثه الربيع العربي في نفوس حكام روسيا المعتاشين على تحويل البشر إلى أقنان!
الجديد البوتيني في التصورات الروسية التاريخية، هو محاولة زج الكنيسة الأرثوذكسية في حرب دينية ضد المسلمين، وما تصريحات بطرك الكنيسة الروسية الأخيرة واعتبارها للحرب الروسية ضد الشعب السوري بأنها حرب مقدسة إلا عار على إرث المحبة والتسامح بين المسلمين والمسيحيين، وقد رد أرثوذكس سوريا عليه بأن الحروب الصليبية التي استهدفت القدس والمنطقة قبل تسعمئة عام، كانت تستهدف المسيحيين الأرثوذكس والمسلمين باعتبارهم كفارًا، حسب مقولات تلك الحروب ذات الشكل الديني والمضمون الاستعماري!
في المجال السياسي تضمن روسيا المصالحات، ولكنها سرعان ما تتخلى عنها بعد توقيع صكوك الاستسلام، وتأتي جحافل المخابرات والسجانين من الشبيحة والمعفشين فيحرقون الأخضر واليابس، فتبادل الأدوار بين الروس والنظام والإيرانيين يصبو إلى هدف واحد، وهو تحويل سوريا إلى سجن كسجن “تدمر” ولكن بحجم كل البلد.
لقد كان جميل حسن، عرّاب القتل الجماعي في سجون المخابرات الجوية، صريحًا وواضحًا في كلمته الأخيرة (27 من تموز 2018) التي تعبر عن تصورات النظام والروس والإيرانيين، واعتبار سوريا كلها قبوًا يتبع للمخابرات الجوية، وهو يثمن الرعاية الروسية لجرائمه التي يوزعها عبر دوائر النفوس كهدايا للأمهات المنتظرات لأبنائهن ولبناتهن من المعتقلين السياسيين، ويبشر الروس بأنه ما تزال لديه أسماء لثلاثة ملايين مطلوب من الشعب السوري، وحتى المُهجّرين السوريين وعددهم، كما اعترف هو، أكثر من عشرة ملايين، فسيقبل منهم من يشاء أن يكون مخبرًا على أهله، أو من يعمل أجيرًا في ورشة الإعمار الروسية بأجر بخس، وسيعدم ما يفيض عن ذلك!
المدينة الفاضلة التي كتب عنها أفلاطون أحد أعظم المؤلفات، التي لا تزال إرثًا للبشرية وللعقل المثقف، تحولت على يد المافيا الروسية إلى مزرعة للأقنان ترعاها المخابرات، وتمكّنها على الأرض بالقصف وبالفيتو وبالتعذيب وبالتهجير، فالحل السياسي الروسي يستقي كل معطياته من هذه الخلفية التي كانت مدينة “غروزني” عبارة عن “ماكيت” صغير للتصور البوتيني عن المدينة الفاضلة، قبل أن تأخذ هذا الشكل الجديد لها في سوريا، وقد سبقه في تصورها “جورج أورويل” في رائعته الروائية “1984” وكان الاتحاد السوفياتي وأجهزته القمعية مصدر إلهامه.
عقل بوتين المخابراتي، الذي لا يزال غاضبًا من سقوط جدار برلين ومن تحرير معتقلي الاتحاد السوفياتي، ينشر اليوم أسس مدينته المخابراتية الفاضلة، ويجعل من شبيحة بشار الأسد رسلًا لرسالته التي تنتشر الآن في سوريا، وربما تحلم بتعميمها على العالم العربي، وتهدف إلى إرجاعه كعالم من الأقنان والإرهابيين، الذين يحق للروس نهب ثرواتهم، والتحكم بمصيرهم، وربما بإشراف دولي!