توقّف بعض دارسي أنظمة الاستبداد عند الفارق بين نظام يخيف المواطنين في صحوهم النهاري، ونظام يخيفهم في أحلام ليلهم التي تغدو، بالضرورة، كوابيس. ونسجاً على المنوال نفسه يمكن التمييز بين نظام يمنع الناس من العيش حيثما أرادوا، وهذا فادح بطبيعة الحال، ونظام يمنعهم من الموت حيثما أرادوا، وهذا أفدح.
هكذا نلاحظ مثلاً أنّ أكثريّة ساحقة من سياسيّي سوريا الذين رحلوا بين 1963 – تاريخ وصول البعث إلى السلطة – واندلاع الثورة في 2011، إنّما رحلوا في بلدان غير بلدهم، وبعضهم دُفنوا هناك إذ لم يُسمح بإعادة جثثهم ودفنها.
ولا بأس هنا بقائمة، ولو طالت نسبيّاً، تشمل بعض أسماء لرؤساء جمهوريّة ورؤساء حكومة ووزراء ومؤسّسي أحزاب وقادة رأي (بعضهم بعثيّون) ينطبق عليهم هذا “القانون”:
فناظم القدسي، آخر رئيس جمهوريّة سوريّ منتخب، توفي في 1997 في عمّان حيث دُفن، وخالد العظم، الذي رأس حكومات عدّة، ولعب بعض أبرز الأدوار في تاريخ سوريّا الحديثة، توفي في 1965 في بيروت حيث دُفن، وشكري القوتلي، أوّل رئيس لسوريّا ما بعد استقلالها، توفّي في بيروت في 1967، وأكرم الحوراني، مؤسّس “الاشتراكيّ العربيّ” والقياديّ البعثيّ ورئيس المجلس ونائب رئيس الجمهوريّة، فتوفي في عمّان في 1996 ودُفن فيها، ورشدي الكيخيا، زعيم حلب وقائد حزب الشعب، توفّي في 1987 في نيقوسيا حيث دُفن، وصلاح الدين البيطار، أحد مؤسّسي البعث ورئيس حكومة سابق، توفي اغتيالاً في 1980 في باريس (على يد المخابرات الفرنسيّة طبعاً!) ودُفن في بغداد، ومعروف الدواليبي، الذي كان رئيس حكومة سابقاً، توفّي في 2004 في السعوديّة حيث دُفن، وميشيل عفلق، مؤسّس البعث الذي حكمه محازبوه بالإعدام، توفي في 1989 في باريس ثمّ دُفن في بغداد، والوزير منير العجلاني، توفّي ودُفن في 2004 في السعوديّة، ومأمون الكزبري، وهو أيضاً رئيس حكومة سابق، توفّي ودُفن عام 1998 في بيروت…
لن نتوقّف عند ظروف الوفيّات التي حدثت بعد أن فاض الدم في 2011، كوفاة وزير خارجيّة سابق هو ابراهيم ماخوس في الجزائر عام 2013، أو رئيس حكومة سابق هو يوسف زعيّن الذي توفي في السويد عام 2016. لكنّ تجارب الراحلين المذكورين، وسواهم ممّن لا تحيطهم الذاكرة، تزوّدنا بمعيار لا تنقصه الدقّة في قياس أنظمة استبداد الحدّ الأقصى. فهنا يحضر ساطعاً جبن السلطة التي لا يحول جبروتها الأمنيّ دون الخوف من جثّة، سيّما وأنّ دفن تلك الجثّة سيفضي إلى “تجمّع” قد تصعب السيطرة عليه. بيد أنّ شيئاً آخر يحضر بالسطوع نفسه: إنّه شعور هذه السلطة بأنّها تملك البلد على نحو مطلق وحصريّ، فلا تكتفي بانتزاع الحقّ في الحياة بل تنتزع أيضاً الحقّ في الموت. لكنّ هذا المالك لا يُظهر ذرّة كرم أو أريحيّة إذ يسوّر ممتلكاته في وجه الموتى ويمنعهم من الموت فيها.
لقد صوّر السينمائيّ السوريّ الراحل عمر أميرالاي الطوفان في بلاد البعث. أمّا الموت الغزير الذي نشهده في بلاد البعث، منذ سنوات، فننسى أحياناً إحدى مقدّماته الموتيّة.