نور عبد النور | محمد حمص | رهام الأسعد | أحمد جمال
على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها، لم تُبرَّأ أي جهة عسكرية في سوريا من المسؤولية عن مقتل المدنيين، سواء كان ذلك باستهداف متعمد أو بطرق غير مباشرة، ما جعل المدنيين يدفعون الفاتورة البشرية الأكبر خلال سبعة أعوام من الحرب.
زرعت الجهات العسكرية والأمنية مقارها في مناطق المدنيين، فاحتمت بهم ولم تحمهم، وتركت أسلحتها ومخازن الذخيرة بين منازلهم، مستغلة هوامش الأعراف العسكرية، ما جعل المدنيين في سوريا ينامون في غابة من المتفجرات التي يمكن أن تنهي حياتهم في ليلة وضحاها.
ولعل الانفجار الذي وقع في مدينة سرمدا في 12 من آب الحالي، سلط الضوء على خطر إحاطة المدنيين بالمراكز العسكرية، إذ تسبب انفجار مستودع ذخيرة ضمن بناء سكني بمقتل 67 مدنيًا، وسقوط عشرات الجرحى.
الحادثة أعادت إلى الواجهة عشرات الحوادث المتصلة، والتي قتل فيها عشرات المدنيين ممن لم يكن لهم أي ذنب سوى أن المقار العسكرية والأمنية اختارت مناطقهم لتكون مواقع لها.
إذ تذرعت الجهات العسكرية بأسباب أمنية أو عسكرية مختلفة للتمركز بين المدنيين، واستغلت هوامش القوانين الدولية والثغرات التي جعلت من كامل الجغرافيا السورية هدفًا مباحًا، ومن المدنيين حطبًا توقد به نار الحرب حتى الآن.
أغراض أمنية وعسكرية
لماذا تضع التشكيلات العسكرية مقارها في المناطق السكنية؟
باختلاف التوجهات والأهداف العسكرية، تختلف الأسباب التي تدفع جهة عسكرية ما إلى زرع مقرات تابعة لها أو مستودعات للأسلحة أو أفرع أمنية بالقرب من المناطق السكنية أو حتى ضمنها.
ويرى المحلل العسكري، العميد خالد المطلق، أن تلك الأسباب تعود لأمرين، الأول أمني والثاني عسكري، بمعنى أن الجهات العسكرية إما أن تلجأ لوضع مقراتها بين المدنيين للاحتماء بهم، أو أنها تضع الذخائر الاستراتيجية أو الملفات المهمة في مقار قرب مناطق المدنيين.
طبيعة الثورات
يوضح المطلق لعنب بلدي أن طبيعة الثورات تفرض على “الثوار” التمركز بين المدنيين لأسباب أمنية، ويكون المدنيون هم الحاضنة الشعبية، وهو ما حدث بالنسبة لبعض فصائل المعارضة السورية المستقرة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام.
ويضيف المطلق، “لم يسبق في التاريخ كله أن يقصف الطيران شعبه كما في الحالة السورية، لذلك وضع قادة الفصائل بعض المقار العسكرية بالقرب من المناطق السكنية”، معتبرًا أن “ذلك كان خطأً فادحًا من القادة، وخاصةً أنهم لم يضعوا في حسبانهم استهداف قوات الأسد لتلك المراكز”.
هامش العرف العسكري
تمنع الأعراف العسكرية، وفق المطلق، وضع أي قطعة أو مقر ضمن المناطق المأهولة بالمدنيين، وإنما يجب وضعها على بعد 2 كم على الأقل، ويستثنى من ذلك مراكز القيادات والمراكز الاستراتيجية والتي تحتوي على أسلحة استراتيجية معينة أو معلومات مهمة.
ويشير المطلق إلى وجود شروط يجب اتباعها عند وضع تلك المواقع ضمن مناطق سكنية، مضيفًا أن “هناك معلومات أمان لوضعها، وكل جيوش العالم تتبع هذه الخطة، لكن تخزين الأسلحة في المناطق السكنية ممنوع بشكل قطعي”.
وتختلف الحالة السورية بشكل جدلي عن الحالة العامة “بسبب قناعة الفصائل العسكرية والثوار بأن قوات الأسد لا يمكن أن تقصف المناطق السكنية أو المقار العسكرية التي ضمنها فتضعها للتمويه، حيث تكون المناطق المكشوفة أكثر عرضة لاستهداف الطيران وخاصةً في ظل عدم وجود مضاد طيران” بحسب العميد خالد المطلق.
أما بما يخص الأفرع الأمنية التابعة لقوات الأسد وهيئة أركان النظام فهي محصنة بغطاء جوي ومدفعي، كتلك الموجودة في جبل قاسيون الذي يحتوي على كتيبة مدفعية وكتيبتي “أوسا” و”باتشورا” للدفاع الجوي والتي هي حاميات للمراكز العسكرية والاستراتيجية في العاصمة دمشق.
تتذرع قوات الأسد منذ تحول الثورة للمسار المسلح، وبعد كل استهداف للمناطق التي تسيطر عليها المعارضة، بوجود تجمعات لتنظيمات “إرهابية” في المنطقة المستهدفة، بغض النظر عن الجهة أو الفصيل الذي يسيطر على المنطقة.
ووفق هذه الذرائع والمبررات الجاهزة، تسببت قوات النظام بمقتل مئات آلاف المدنيين، وثقت منهم “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” 195 ألف مدني منذ عام 2011، بينهم أكثر من 22 ألف طفل، وما يزيد على 21 ألف امرأة.
وتزيد الأرقام الحقيقية عن التي تعرضها الشبكة، لكن المجازر الجماعية، وصعوبات التوثيق، تمنع الشبكات الحقوقية من توثيق جزء كبير من الضحايا.
وقتل عدد كبير من المدنيين في “مجازر” راح ضحيتها مئات في يوم واحد، كالمجزرة التي ارتكبتها قوات النظام في مدينة دوما في آب عام 2015، ما أدى لسقوط ما يزيد على 110 ضحايا جلهم من المدنيين.
وسائل إعلامية تابعة للنظام السوري قالت حينها إن “القوة الجوية للجيش العربي السوري استهدفت مقار عسكرية تابعة لجيش الإسلام”.
منظمة “هيومان رايتس ووتش” الحقوقية نقلت عن شهود في المنطقة أنه لا مواقع عسكرية بالقرب من السوق الشعبي في دوما، فيما يبعد أقرب موقع عسكري 1,5 كم عن مكان الاستهداف، وأصدرت بيانًا طالبت فيه مجلس الأمن فرض حظر التسلح على “الحكومة السورية”.
وقالت المنظمة في بيانها، إن ذلك جاء في أعقاب هجمات حكومية جوية متكررة على الأسواق الشعبية والمناطق السكنية في مدينة دوما، ما تسبب في مقتل ما لا يقل عن 112 شخصًا.
وقال نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “هيومن رايتس ووتش”، نديم حوري، “إن قصف سوق حافلة بالمتسوقين والباعة في وضح النهار يظهر استهانة الحكومة السورية المروعة بالمدنيين”.
ووفق المحلل العسكري، العميد خالد المطلق، فإن قوات الأسد لا تستهدف المقار العسكرية، وإنما تركز قصفها على المناطق المأهولة بالسكان كالأسواق والساحات العامة بما يشكل ضغطًا على الفصائل التي تسيطر على المنطقة المستهدفة، كحال الحملة العسكرية الأخيرة على الغوطة الشرقية .
الهجمات لم تكن الأولى على المناطق المزدحمة أو الأسواق، إذ سجلت مراصد حقوقية غارات جوية على حمورية، في 25 من كانون الثاني عام 2015، قتل فيها ما يزيد على 40 مدنيًا، وعلى سوق كفربطنا في 5 من شباط من ذات العام قتل فيها 45 مدنيًا، بحجة وجود مسلحين تابعين للمعارضة.
كما تذرع النظام وحليفه الروسي بوجود “تنظيم الدولة” لاستهداف مناطق عدة، أبرزها الحملة العنيف على حوض اليرموك بريف درعا في تموز الماضي، قبل أن يتم تسليم المنطقة للنظام، إذ شمل القصف بشكل مستمر حينها غارات للطيران الحربي وراجمات صواريخ “فيل” والمدفعية، ما أدى إلى مقتل مدنيين.
المشافي والمدارس أيضًا، كانت هدفًا مباشرًا للنظام، إذ استهدفتها قواته والطائرات الروسية الحليفة، بذريعة احتماء عناصر لفصائل المعارضة فيها.
زرعها النظام في المدن..
مقار أمنية تحولت إلى نقمة على السكان
تقسم الأجهزة الأمنية في سوريا إلى أربعة أقسام رئيسية، وهي المخابرات العسكرية (الأمن العسكري)، والمخابرات الجوية، وأمن الدولة، والأمن السياسي، ويصل عدد الأفرع الأساسية التابعة للأجهزة الأمنية الأربعةإلى 48 فرعًا، إضافة إلى الفروع الإقليمية في المحافظات.
تلعب هذه الأفرع دور المحرك الأساسي لآلة القمع التي يسلطها النظام السوري على الشعب، إذ تعد الوسيلة الأهم في فرض الرقابة الأمنية، وغالبًا ما تحتوي في أقبيتها على زنازين يتم فيها احتجاز المعتقلين وتعذيبهم.
وعمد النظام خلال أربعين عامًا إلى توزيع الجزء الأكبر من هذه المقار الأمنية في مناطق مكتظة بالمدنيين، وضمن أحياء سكنية في وسط المدن السورية.
خلال أعوام الثورة، تعرض عدد من المقار الأمنية التابعة للنظام لهجمات مختلفة، سواء بقذائف الهاون أو عبر تفجير عبوات أو أحزمة ناسفة، وهو ما تسبب في أحيان عدة بمقتل مدنيين في المناطق المحيطة بهذه المقار.
كما تقع عدد من المقار العسكرية والحزبية التي كانت هدفًا لفصائل المعارضة خلال الأعوام السبعة الماضية، في مقرات المدن وضمن أحياء مكتظة بالمدنيين.
دمشق
يقع مقر قيادة هيئة أركان الجيش السوري وسط مدنية دمشق عند ساحة الأمويين، ويقابل مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ومبنى دار الأوبرا والمعهد العالي للفنون المسرحية، ويجاوز فندق داما روز، وتعرض لتفجيرات عدة منذ عام 2012.
وعلى بعد كيلومترات قليلة إلى الغرب، يقع المربع الأمني الذي يضم مقار الوزارات وأجهزة أمنية ومخابراتية رئيسية وسط حي كفرسوسة السكني، ورغم التحصين الأمني الشديد والحواجز المنتشرة في محيطه، تعرض المربع الأمني لثلاثة تفجيرات في أعوام 2011 و2013 و2017.
وكان عام 2012 شهد أحد أضخم التفجيرات في دمشق ضمن منطقة القزاز قرب فرع فلسطين، وأودى التفجير بحياة 55 شخصًا أغلبهم من المدنيين، وسط اتهامات متبادلة بين النظام والمعارضة حول المسؤولية عنه.
فرع الأمن الجنائي في حي باب مصلى، وقسم شرطة الميدان، كانا هدفين أيضًا لتفجيرات أسفرت عن مقتل مدنيين إلى جانب عناصر أمن وعناصر في قوات النظام.
حلب
تعرض محيط ساحة سعد الله الجابري وسط مدينة حلب لتفجيرات عدة كان أبرزها التفجير الذي وقع في شهر تشرين الأول عام 2012 وأودى بحياة نحو 35 شخصًا بينهم مدنيون.
وتحيط بالساحة مقار أمنية للنظام ومقر حزب البعث، وتحولت خلال أعوام الثورة إلى تجمع لعناصر النظام وعناصر الميليشيات المحلية الموالية له.
وتكرر استهداف الساحة عامي 2013 و2017.
مبنى المخابرات العسكرية، الواقع في حي الفرقان السكني، كان هدفًا مباشرًا لفصائل المعارضة التي تمركزت غربي حلب خلال الأعوام الماضية.
كما تعرض المبنى في شباط عام 2012 إلى انفجار عنيف أودى بحياة عدد من العناصر بداخله، إضافة إلى مدنيين في الأبنية السكنية المجاورة.
وفي العام ذاته تعرض فرع الأمن السياسي في حي السليمانية، ذي الغالبية المسيحية إلى تفجير بسيارة مفخخة، وقتل حينها مدني إثر الانفجار.
حمص
يقع المربع الأمني الذي يضم فرعي الأمن العسكري وأمن الدولة وسط مدينة حمص، قرب ساحة الحاج عاطف، وتعرض الفرعان عام 2017 العام الماضي لهجوم مباغت شنه ثلاثة مسلحين، وتسبب التفجيران بمقتل تسعة أشخاص، أغلبهم من عناصر الأمن.
كما تضم مدينة حمص أفرعًا أمنية أخرى في مناطق المدنيين، منها فرع المخابرات الجوية قرب سوق الهال.
الكلية الحربية المجاورة لحي الوعر ومشفى بنك الدم أيضًا، كانت هدفًا متكررًا لفصائل المعارضة.
درعا
تتركز المقار الأمنية في درعا وسط المدنية وبين الأحياء السكنية، وأبرزها فرع الأمن السياسي، الذي يوجد في حي المطار ويتبع له الملعب البلدي القديم، وفرع المخابرات الجوية الواقع في حي الكاشف بدرعا المحطة.
بينما يقع فرع الأمن الجنائي خلف أمن الدولة بالقرب من دوار الحمامة، ويوجد فرع الأمن العسكري في حي السحاري، وتم نقل مركز قيادته الى مبنى الحزب الجديد في حي القصور.
وتعرضت المقار الأمنية في درعا لهجمات عدة عبر تفجيرات وقصف بالأسلحة الثقيلة، من قبل الفصائل الموجودة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في المحافظة.
السويداء
يعتبر الهجوم الأخير الذي شنه تنظيم “الدولة الإسلامية” على السويداء الأعنف في المدينة منذ بداية الثورة، إذ أودى بحياة نحو 250 شخصًا، أغلبهم من المدنيين.
واستهدف التنظيم مقار أمنية تابعة للنظام في المدينة إضافة إلى مواقع يتركز فيها المدنيون في ريف السويداء.
وتتركز المقار الأمنية في مدينة السويداء داخل الأحياء السكنية، إذ يقع فرع الأمن السياسي قرب دوار الزنبقة وسط المدينة، ويتمركز فرع أمن الدولة مقابل بناء “دار الرعاية” للأيتام، بينما يقع فرع المخابرات الجوية بجوار دوار العنقود في مدخل المدينة، وفرع الأمن العسكري بالقرب من الفندق السياحي في حي القلعة.
ضحايا التحالف الدولي.. “مجازر” بمبررات قانونية
خلفت غارات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية على مواقع لتنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، عشرات الضحايا من المدنيين، الأمر الذي اعترف به التحالف على مضض، ووضع له مبررات عدة، كضخامة الهدف العسكري مقارنة بعدد المدنيين المقتولين إثر الاستهداف، أو بسبب تداخل مراكز ومقار التنظيم بالأحياء السكنية.
ووفق تقرير حقوقي أصدرته “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” العام الماضي في الذكرى السنوية الثالثة لتدخل قوات التحالف الدولي في سوريا، فإن التحالف قتل ما لا يقل عن 2286 مدنيًا في إطار حربه على تنظيم “الدولة” الإسلامية منذ عام 2014.
التقرير عرض إحصائيات مفصلة لما ارتكبته قوات التحالف الدولي منذ تدخلها في سوريا وحتى 23 من أيلول 2017، وأشار إلى أن التحالف قتل ما لا يقل عن 674 طفلًا و504 نساء، كما ارتكب ما لا يقل عن 124 مجزرة.
التقرير اعتبر أن التحالف غيّر النمط الذي اتبعته قواته منذ بدء هجماتها في أيلول 2014 بشكل كبير فقد اتسمت الهجمات التي نفذتها حتى نهاية عام 2015 بأنها محددة ومركزة وأقل تسببًا في وقوع ضحايا مدنيين.
ولفت إلى أن الهجمات التي تم توثيقها في عامي 2016 و2017 “كانت عشوائية وغير مبررة وتسببت في وقوع مئات الضحايا المدنيين، ودمار كبير في المراكز الحيوية المدنية”.
وردًا على تقرير الشبكة، أقر التحالف الدولي بمقتل 800 مدني على الأقل، في ضربات جوية نفذها في سوريا والعراق خلال معاركه ضد التنظيم، أي أنه لم يعترف بالعدد الحقيقي لضحايا ضرباته من المدنيين.
وواجه التحالف انتقادات دولية كثيرة، منها ما ورد في بيان لـ “منظمة العفو الدولية” في أيار الماضي، قالت فيه إن التحالف عرّض حياة المدنيين في الرقة للخطر، لاستعادة معقل للتنظيم في سوريا، مشيرة إلى أن التحالف لم يتخذ الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين وتقليل نسبة الخطر المحيط بهم.
من جانبه، نفى التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، انتهاك القانون الدولي وتعريض حياة المدنيين في سوريا للخطر.
وقال المتحدث باسم التحالف، شون راين، في حديث لإحدى القنوات الأمريكية إن تنظيم “الدولة” هو من ارتكب جرائم بحق المدنيين في الرقة، مشيرًا إلى أن التحالف حقق في كل التقارير التي تفيد بوقوع انتهاكات بحق المدنيين في المدينة.
واعتمد التحالف في تبرير مقتل المدنيين على القانون الدولي الذي لا يجرم استهداف المدنيين ضمن ما يعرف بقاعدة “النسبة والتناسب”، إذ تنص المادة 23 من اتفاقية لاهاي على أنه “عند توجيه ضربات ضد أهداف عسكرية يجب الحرص على ألا تتخطى الأضرار الجانبية المتوقعة الفائدة العسكرية المرتقبة”.
حزم قانوني وثغرات تم استغلالها
كان القانون الدولي، ولا يزال، حازمًا في موضوع استهداف المدنيين في أوقات الحروب والنزاعات، معلنًا عن ميثاق وقواعد “أخلاقية وإنسانية” من شأنها تنظيم حالة الحرب والحث على التفريق بين الهدف العسكري والهدف المدني، رغم عجز المجتمع الدولي عن مساءلة المتجاوزين لهذا القانون، في كثير من الحالات.
ينص القانون الدولي الإنساني صراحةً على وجوب حصر العمليات بالأهداف العسكرية دون سواها، وعدم توجيه هجمات ضد المدنيين أو الأعيان المدنية، وفق المادتين “22” و”23″ من اتفاقية لاهاي الرابعة، الخاصة بـ “النزاعات المسلحة الدولية”.
وبناء على ذلك، يمنع القانون الدولي وضع المقرات العسكرية والأمنية ضمن التجمعات السكنية، بما يجعل المدنيين دروعًا بشرية في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، وذلك بموجب المادة “34” من اتفاقية جنيف الرابعة، والقاعدة “97” من القانون الدولي الإنساني العرفي، التي نشرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر عام 2005.
القانوني السوري إبراهيم علبي، مدير “البرنامج السوري للتطوير القانوني”، يرى أن إنشاء مقرات عسكرية وأمنية في الأحياء المدنية، يجعل من هذه المقرات هدفًا عسكريًا “مشروعًا” لا يجرّم الجاني عليها.
وأضاف في حديث لعنب بلدي أن أطراف النزاع في سوريا لم تلتزم بهذا القانون، مشيرًا إلى أن قوات النظام السوري وفصائل المعارضة المسلحة والتنظيمات الإسلامية المتشددة لم تأخذ الحيطة الكافية عند اختيار مقراتها العسكرية، ما عرّض ممتلكات وأرواح المدنيين للخطر.
وبحسب علبي، فإن القانون الإنساني الدولي يدين الطرفين، الطرف الأول لأنه وضع أهدافًا عسكرية بين المدنيين، والطرف الثاني لأنه لم يأخذ الحيطة والتدابير اللازمة في أثناء استهداف تلك المقرات.
استغلال لا يبرره القانون
يعتبر القانون الدولي تعمّد استهداف المدنيين “جريمة حرب”، حتى وإن كانوا بالقرب من أهداف عسكرية “مشروعة”، لكن ثغرات عدة تم استغلالها في هذا النطاق من قبل الأطراف المتنازعة، إذ تنص المادة “23” من اتفاقية لاهاي على أنه “عند توجيه ضربات ضد أهداف عسكرية يجب الحرص على ألا تتخطى الأضرار الجانبية المتوقعة الفائدة العسكرية المرتقبة”.
تتلخص تلك المادة بقاعدة دولية شهيرة تعرف باسم “النسبة والتناسب”، والتي يقاس من خلالها حجم الأضرار بين المدنيين مقارنة مع الفائدة العسكرية، لكن أطراف النزاع في سوريا بررت انتهاكاتها ضد المدنيين تحت هذه القاعدة.
إذ تبرر أطراف النزاع استهداف المدنيين، وتراه جائزًا قانونيًا، في حال كانت الفائدة العسكرية المرجوة أكبر من الضرر الجانبي مستغلة مبدأ “النسبة والتناسب”.
وهنا واجه التحالف الدولي في سوريا انتقادات عدة خلال عملياته ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، والتي راح ضحيتها مدنيون تحت ذرائع التحالف الذي يقول إن التنظيم اتخذ من المدنيين دروعًا بشرية.
كما اتهمت منظمة العفو الدولية تنظيم “الدولة” بالتهمة ذاتها خلال معارك الرقة عام 2017، معتبرة أنه كان من الصعب على التحالف تجنب استهداف المدنيين.
وكذلك بررت وزارة الدفاع البريطانية استهداف مدني في غارة شنتها إحدى طائراتها دون طيار (درون) ضد مواقع تابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، بقولها إن الغارة كانت تستهدف ثلاثة أشخاص يشتبه بانتمائهم للتنظيم، لكن المدني دخل بدراجته نطاق الضربة فجأة، مشيرة إلى أن القتل “غير متعمد”.
وتعتبر هذه المرة الأولى التي تعترف فيها بريطانيا رسميًا بمقتل مدنيين، منذ انخراطها في التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة” في سوريا والعراق عام 2014.
ومع ذلك يطالب القانون الإنساني الدولي جميع أطراف النزاع بأخذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب إيقاع أضرار جانبية أو تقليلها إلى الحد الأدنى، بموجب القاعدة “15” و”24″ من القواعد المنبثقة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
استطلاع رأي: من يتحمل مسؤولية قتل مدنيين باستهداف مقرات عسكرية وأمنية أُنشئت في أحيائهم؟
أظهر استطلاع للرأي أجرته جريدة عنب بلدي عبر موقعها الرسمي وعلى صفحتها في “فيس بوك” أن أغلب قرائها يلقون بالمسؤولية عن مقتل مدنيين على الجهة التي أنشأت مقراتها بين المدنيين أو قرب التجمعات المدنية، في حال استهداف مقراتها.
وطرحت عنب بلدي على قرائها السؤال التالي: “برأيك.. من يتحمل مسؤولية قتل مدنيين باستهداف مقرات عسكرية وأمنية أُنشئت في أحيائهم؟”.
59% من المشاركين في الاستطلاع، الذين وصل عددهم إلى 535 مشاركًا، أشاروا إلى أن الجهات التي تنشئ مقراتها بين المدنيين أو قرب التجمعات المدنية هي المسؤولة.
بينما اعتبر 28% أن الجهة التي تستهدف المقرات رغم وجودها في أحياء سكنية هي التي تتحمل مسؤولية مقتل المدنيين إثر الاستهداف.
فيما أبدى 13% من المشاركين في الاستطلاع عدم تحديد وجهة نظرهم من الموضوع وأجابوا بـ “لا أعرف”.