خطيب بدلة
قبل سنوات، حينما كنت عضوًا في الائتلاف، كان صديقي الكبير الأستاذ صالح سناري يتصل بي من مكان إقامته في “مخيم الزعتري”، ويقول لي، بعد السلام والسؤال عن الأحوال:
– يا خطيب شو قاعدين عم تساووا عندكم؟ يا أخي رَجّعُوا السوريين لبلادهم.
وعلى الرغم من أن هذا الكلام فيه شيء مضحك، أو، في الأقل، يرسم البسمة على الوجوه، إلا أنني كنتُ أتلقاه بمنتهى الجدية، لأنني أعرف العم صالح، و(عاجنُه وخابزُه)، وأستطيع أن أميز بين الجِدّ والهزل في كلامه. كان يسود الصمتُ في مكالمتنا بضع ثوانٍ، فأنا لا أمتلك جوابًا لمثل هذا الكلام الخطير، فيقطعه بقوله:
– بعرف أنت ما بيطلع بإيدك، لكن قل لي، مين بيطلع بإيده؟ ميشيل؟ برهان؟ موفق؟ أخي، إذا شفت أي واحد منهم سَلّمْ لي عليه، وقل لُهْ: رجعوا السوريين لبلادهم!
كان العم صالح واحدًا من الذين هُجِّروا من سوريا في سنة 2014. لديه منزل صغير اشتراه بعدما حصل على قرض من المصرف العقاري، وكساه بقرض من مصرف التسليف، واشترى مفروشاته بعد أن باعت امرأتُه وبناتُه وكناتُه أساورَهن الذهبية اللاتي اشترينها بالتوفير والتقتير.. وفي يوم من الأيام اشتد القصف على البلدة التي يعيش فيها، فسافر مع أسرته إلى ضيعة أهله، لأن القصف هناك أقل نسبيًا، وفي اليوم التالي (صَفَق) أحدُ نسور جَوِّنا البواسل المنزلَ برميلًا متفجرًا جعله -كما يقولون في الكلام الدارج- “سَمْهَدَانة”! ولأن العم صالح اعتاد أن يداوي رضوضه النفسية بالمزاح، فقد قال لامرأته التي جعلَ منظرُ البيت المقصوف ركبتيها تتقصفان تحتها إن المعلم الكبير “جحا” كان قد غسل قميصه ونشره على سطح المنزل، فهب الهواء وأوقعه على الأرض، فضحك وقال لجيرانه:
– الحمد لله أنني لم أكن مرتديًا القميص حينما سقط!
العم صالح يعرف، ولم يكن بحاجة لمن يخبره، أن معظم الذين سقطت قمصانهم في سوريا كانوا لابسينها! والذين “صَفَقَهم” نسورُنا بالبراميل كانوا نائمين في بيوتهم، وأن الذين أجبرهم ابنُ حافظ الأسد على الهجرة لا يرغب نظام ابنُ حافظ الأسد بعودتهم، والنصيحة التي أمسك عصام زهر الدين على لحيته ووجهها للنازحين بألا يعودوا لم تكن عابرة، والبيوت التي هَجَرَها أهلُها قبل أن يصفقها النسور بالبراميل لا تنتظر أهلها، بل إنها امتلأت بقوم آخرين، والأهالي المدنيون الذين أُجبروا على الذهاب إلى محافظة إدلب جالسون الآن وهم يضعون أيديهم على قلوبهم خوفًا من البراميل التي يتوعدهم ابن حافظ والروس والإيرانيون بإلقائها عليهم، لا يهمهم القصف والموت والبرد، فقد اعتادوا على هذه الاشياء، ولكنهم يتساءلون إلى أين يذهبون هذه المرة، والذين تضغط عليهم الحثالات المؤيدة للأسد في لبنان، من أجل أن يعودوا، يضبون الحقائب، وقبل أن يغادروا تصلهم الأخبار عن عشرات الألوف الذين أماتهم ابنُ حافظ الأسد في سجونه التي لم تعرف لها الإنسانية مثيلاً منذ ما قبل هتلر وستالين.. فاتركها لله يا عم صالح، وكَبِّرْ على الشيطان، ولا تطلب من أحد أن يعيد أحدًا إلى دياره.