مخيم الزعتري.. الجرح وحده لا يتطور!
محمد عبد الستار إبراهيم
من يزور “الزعتري” اليوم يدرك على الفور أن المخيم ليس هو الذي كان حين تم افتتاحه في تموز 2012، كل شيء فيه تطور، الخيم تحولت إلى كرفانات وبيوت، والأسواق باتت تتشابه مع أسواق المدن، الخدمات متوفرة بشكل شبه كامل، المخيم الذي كان عبارة عن غابة من الفوضى أصبح اليوم أكثر تنظيمًا وانضباطًا وأمنًا.
ولكن..
على الطريق الصحراوي المؤدي من عمان إلى مدينة المفرق قبل أن يقطع الطريق يمينًا ليؤدي بالزائر إلى قرية الزعتري.. تناديك الصحراء بغبارها وعواصفها التي تدور على شكل حلقات من بعيد على مرأى العين، وتقول هنا المأساة، المصير الذي لا يتغير، إنها الطبيعة.
الكرفانات المكتسية بالغبار المتراكم تناديك من بعيد: هنا تحت هذا الغبار يقطن من تآمر عليه البشر واحتضنته الطبيعة؛ بغض النظر كيف هو شكل هذه الطبيعة، لا يمكنك أن تنفض الغبار كما لا يمكنك أن تطلب من الشمس أن تغيب في أوج النهار، هذا الحال لا يمكن تغييره؛ عليك أن تتأقلم.
الوجوه شاحبة، ورغم ذلك تتسرب ابتسامة من بعضها. كل شيء تطور حين تدخل سوق الزعتري، ولكن بمجرد أن تقف مع أي شخص، تكتشف أن الجرح وحده لم يواكب التطور ولا يندمل بل يكبر.. والمكان يفرض على الجرح بأن يكبر.
على الصحفي أن يكون حياديًا ومهنيًا وموضوعيًا هذه هي أساسيات الصحافة وقواعدها، أما الصحفي السوري فوق ذلك؛ عليه أن يكابر على جرحه ويفرض على نفسه ما لا يمكن تحمله ويستمر ليسمع من المصدر ويكمل الحديث، رغم المرارة التي تقطر من الأفواه والعلقم الذي يسكن كل الحروف.
تجالس عجوزًا ليسرد قصته، فيتحول الوجه البشوش إلى تجاعيد أتعبتها السنوات السبع التي مضت، يضع يده على فمه ليخفي البحة التي رافقت العذابات، ولكنه لا يستطيع أن يخفي الدموع التي تذرف كقطرات الندى. فآثار التعذيب ما زالت على جسده كالنقش على الحجر، فحب الوطن كان ثمنه غاليًا.
أما الصحفي؛ فيطأطئ رأسه خجلًا ليعطي مساحة من الراحة للمتحدث حتى يعبر عن فيض مشاعره، لكن أوصاله تتقطع دون أن ينبت بحرف أو دمعة تخفف عنه وطأة القهر.
تغيب الشمس الحارقة وتبدأ سهرات شبابية، حيث من المفترض أن تكون سهرة ترفيهية وهذه من أنواع الترفيه النادرة المتوفرة في المخيم، يبدأ كل شاب بسرد حكايته في المعتقلات أو قصة لجوئه.
ومع سحبة نرجيلة ورشفة شاي، ترتسم ابتسامة عريضة على الوجوه وتبدأ الحكاية.. يتذكر المكان والزمان والأشخاص، الزمان يوم أمس واليوم أيضًا سيمضي فهذه سنة الكون، والمكان أصبح ركامًا، وهذا يومًا ما سيعمر بسواعد المحبين، لكن الأشخاص الذين يبدأ صاحبنا بذكرهم، فالأول يقول عنه: فلان رحمه الله، والثاني والثالث.. شريط الذكريات يمر بدقائق مليئة وثقيلة بالآهات، لا عاد الزمان يهمنا ولا عاد للمكان قيمة حتى لو قمنا بترميمه، لأن المكان مهما كان غاليًا علينا لا قيمة له بدون من نحبهم ومن لهم صلة به، المكان يترمم نعم ولكن الجرح لا يكل ولا يمل ولا يترمم. فمن قاتل لأجل حرية الوطن عليه أن يهب روحه قربانًا.
وحين يسمع الصحفي كل هذه المآسي وكل هذا القهر يسأل نفسه: إذًا لمن هذا الوطن اليوم وغدًا؟! فالجميع أصبح يخشى الوطن، لأن حب الوطن في زماننا أصبح تهمة خطيرة.
وقد لخص نزار قباني في قصيدته المشهورة: وطن بالإيجار، ما نعانيه اليوم وقال:
يا سيدتي:
إن النملة تملك وطنًا.
إن الدودة تملك وطنًا.
إن الضفدع يملك وطنًا.
إن الفأرة تملك وطنًا.
إن الأرنب يملك وطنًا .
والسحلية، والصرصار.
وأنا ما ملكني أحدٌ وطنًا
ولذا ، أسكن يا سيدتي
وطنًا بالإيجار.
–
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :