تُطلق «الكوميديا» عادةً على ذلك النوع المضحك من الفن أو الفكاهة، ورغم أن هذه الكلمة حملت معانٍ متناقضة بشكل مدهش عبر التاريخ، منها أغنية الطقس الديني ومنها المأدبة الماجنة، لكن فن التسلية والضحك هو ما استقرت عليه اللغة اليوم من المعاني، وهل اللغة إلا اصطلاح الناس وتعارفهم على تعريف شيء ما في زمن ما؟
الكوميديا في نسختها الأصيلة ليست سخرية من الواقع فحسب، بل هي فلسفة تقوم على الوجع وتحاول أن تقوّم الاعوجاج، ترقص على الألم لتستشرف منه الأمل، والكوميدي الحق هو فيلسوف وفنان في آن واحد، فهو ينظر للواقع «الواقع في داهية» وينقده لينقذه بأسلوب قريب للروح محبب للنفس، كما يقول موليير «الكوميديا هي إصلاح حال الناس بتسليتهم» وعلى هذا فالذي نراه على الشاشات العربية من تهريج لا علاقة للكوميديا به، فالإضحاك شرط الكوميديا ولكنه وحده لا يكفي، فحتى القردة تستطيع إضحاكنا.
الفن الساخر الحقيقي من مهامه أن يخفف عن الجماهير وأن يمتعهم، وأن يرى القبح والأخطاء والتناقضات، ويصرخ في الناس أنه قبيح كي لا يألفوه وتستمرئه ذائقتهم، أن يبقي عيونهم مفتوحة على البشاعة كي لا تلعب الألفة لعبتها في أحداق عيونهم ونسيج عقولهم، وظيفة ’النُكتة’ أن تحدث ’نَكتة’ في جدار الاعتياد الأصم.
ومن الملاحظ لأي مهتم بالمجتمع السوري أو يعيش فيه غياب النكتة الواضح كمًّا ونوعًا مقارنة بالسنوات الأولى للثورة أو السنوات التي سبقتها، فاليوم لم تعد النكات تقال ولم تعد تُسمع، وإن قيلت لم تعد تضحك أحدًا!
وغياب النكتة ليس علامة خطر لأنه غياب للابتسامة والضحكة فقط، ولا لأنه يختصر ويلخص البؤس الهزلي إلى حد الكآبة، الذي تكدس في الأرواح وتجمع كطبقة من الملح على الشفاه، بل لأنه دليل على أن المحارب يلقي أسلحته! فالمرح كما يقول «فيكتور فرانكل» الطبيب النمساوي هو سلاح من أسلحة الروح في نضالها من أجل البقاء والمحافظة على الذات.
فاليوم لم تعد ترى صفحة كـ «صفحة الثورة الصينية» على مواقع التواصل، أو برنامجًا مثل «عنزة ولو طارت» أو «حرية وبس» أو صفحة كـ «مشحم حمص الدولي للدبابات» ولم تعد تسمع طرائفًا أو نكاتًا كتلك التي كانت تعقب أي خطاب أو تصريح رسمي والأمر ذاته بالنسبة للأغاني والكاريكاتورات والمقالات. أي أنك لم تعد ترى الأمل ولا التفاؤل ولا رغبة التغيير!
والسخرية التي ألقاها المحارب حزمت حقائبها وقررت أن تدير ظهرها لهذه البقعة البائسة، فكتبت طلب استقالة موقعًا خطيًا باسمها، ما زال على طاولة مكتب الشعب، وطلبها الاستقالة ليس بسبب ندرة ما يثيرها فلدينا فائض من هذا النوع، فبحسب الممثل الأمريكي مارتن فريمان «خيبة الأمل رافد لا ينضب للكوميديا» ونحن لدينا في هذا البلد الذي لا تتسع فيه إلا هوة المأساة، وفرة في خيبات الأمل ما يكفي لتستمر السخرية بالعمل إلى آخر حياتها، ولدينا جرعات زائدة من الدوافع للسخرية (والجرعة الزائدة تقتل أحيانًا).
لكن الدمعة التي لا تجد قناة تجري فيها تجف والسخرية التي لا تجد روحًا تخف بها تستقيل.
وهو يقف على دور الوقود، قال سائق التكسي «أبو فادي» المعروف بظرافته ودعابته الحاضرة مجيبًا على ابنة أخته التي طلبت منه أن يحكي لها نكتة مضحكة: «مليان شغلات بتضحك يا بنتي، بس بهالتلت سنين يا عمو هرمنا، ما عاد قدرانين نضحك .. الضحك بدو شباب».