عنب بلدي – العدد 149 – الأحد 28/12/2014
عبد الرحمن العوض
«أنا لبيبة الشقرق، سأروي لكم كل ما حدث بعد ذلك، سأقول كلمات قليلة وبسيطة، مثل بساطة مفيد وقلّة كلامه.. كلمات مبللة بدموعي، لكنها ليست للحزن، فقد عوّدني مفيد، منذ التقينا، ألاّ أحزن على شيء، لا عليه ولا على نفسي. سمعت مفيد يقول للرقيب زريق جرّب: جرّب الرقيب زريق. مدّ قدمه داخل العتبة، وحاول مدّ القدم الأخرى. كان الرقيب زريق مصمّمًا، لكنّه كان خائفًا، ويرتجف وكان كلّ شيء في قلب ذلك الصمت يرتجف وفجأة سحب مفيد مسدّسا من تحت الغطاء الموضوع على رجليه المقطوعتين، وسدّد إلى صدر الرقيب زريق. دوّى صوت الرصاصة، وتهاوى الرقيب زريق والدم يدفق من فمه وتراكض الناس. صحت: مفيد! لم يجب مفيد، لكنّه سدّد المسدس إلى صدغه وأطلق..» بهذه الكلمات يختم حنّا مينه مسيرة رَجُلِه الشجاع مفيد إبراهيم المغضوب الشهير بـ «الوحش»، وقد كان ذلك على لسان رفيقة دربه ونضاله زوجته لبيبة. من لم يقرأ تلك الرواية، لابدّ أنه شاهد العمل الدراميّ الذي قدّمه نجدت أنزور وبنفس الاسم. إلاّ أنّ هناك اختلافًا بين المسلسل والرواية المكتوبة. ليس مهمًّا هنا هذا الاختلاف، لكن المهمّ من كلّ هذا وذاك شخصيّة مفيد الوحش، ذاك المراهق الشقيّ الذي نبذه الناس، بل وتعاملوا معه بوحشيّة، فكانوا سبب ضياعه، بل وسبب تلك النهاية المفجعة التي انتهت بها أسطورة هذا الشاب الذي نعيشه اليوم. لم يكن مفيد حنّا مينة إلاّ صورة ما تعيشه سوريا اليوم؛ فهو يعيش وجدانها وطموحها وألقها وتألّقها، البؤس والشقاء فيها. العزّة والكبرياء التي ما افتقدها مفيد يومًا حتى في لحظات ضعفه. ها هو المختار وأبناء الضيعة، حتّى معلّم المدرسة، ورئيس المخفر، وأمّه، بل أبوه، وغيرهم وغيرهم يعيشون عالمنا اليوم وتجترّ سوريا بأرضها وناسها القسوة وسوء الفهم والمعاملة. لقد شيطن العالم من حولنا ذلك الشعب الطيّب، الذي تعامل معه الجميع بوحشيّة فاقت معاملتهم مفيد، حيث جرفه سوء المعاملة والفهم لطموحاته وتطلّعاته إلى طريق ما كان يدور في خلده أنّه يسير فيه أبدًا. الشعب السوريّ يعيش اليوم على وقع تجاذبات سياسيّة ونوايا خبيثة تُبَيّت له على الدوام وطوال الفترة السابقة؛ وجد فيه الكثيرون من حوله صورة ذاك الشقيّ المراهق والعنيد الذي لا يستطيع أحد أن يكون عائقًا بينه وبين ما يريد أو أمام ما يصبو إليه من أهداف وتطلّعات. ضيّقوا عليه، سُدت أمامه كلّ الأبواب، حتّى صوت الأم الشفوقة عليه، الرحيمة به، أسكتوه وحالوا بينها وبينه. مفيد لم ييأس، كذلك شعبنا ما يئس قطّ، بل زاده ذلك إصرارًا على التحدّي والوقوف في وجه التيّار الذي يريد أن يجرفه في معمعة الأحداث الدامية التي يمرّ بها. كما أن القلّة القليلة التي كانت، ولاتزال، ترى في مفيد صورة الشاب القرويّ العاطفيّ الشجاع لم يغيّر من المعادلة شيئًا فكانوا المهزومين في معركة التجاذبات تلك كما هم مهزومون في نص الرواية. أمّا الفئة الأقوى والمدّعية اليوم وقوفها معه ليست في الحقيقة سوى المختار والأب وغيره وغيره من شخصيّات الرواية. لقد أرادوا لهذا الشعب أن يكون شيطانًا فتشيطن قبل أن يريدوه، وراح يصخب في وجه العالم بأسره حتى تقاذفته الأيام، فأضحى شريدًا طريدًا تحاك ضده المؤامرات والدسائس. لكنّه أبى إلاّ أن يقف شامخًا، وهو الذي أصر على إتمام مسيرته ولا شيء يثنيه عن هذا الطريق. لم يستطع أن يفهمه أحد، فهو الذي يمتلك بداخله كلّ مكامن النقاء والصفاء، وكغيره من البشر كان لا بدّ للصفاء والنقاء من ينمّيهما فيه، وهو الذي عرف عنه ذلك ولازال، لكن طالما أنهم أرادوا له غير ذلك فكان ما أرادوا أن يروا فيه الشرّ بكل مكوّناته . هكذا كانت صورة فريد وهكذا هي صورة سوريّتنا في نظر العالم . . شعبنا لم يكن كذلك ولن يكون، لكنّها الحجب التي وضعها العالم أجمع أمام ناظر الناس، لم ولن تسمح للصفاء والنقاء فيه أن يشعّ فأسرع الشرّ بالظهور وفق منظور من يرى في ذلك شرّا، – وما أحسبه كذلك -، فقد اصطنعوا لأنفسهم الشرور وألصقوها به . فما كان لغير الشر صدىً يسمعه الناس، فتجنّد الجميع للوقوف في وجهه .. من هو الرقيب زريق الذي وجده مفيد في طريقه ويكاد يكون حجرة عثرة أمام تطلعاته بعد أن غرق في العجز وصار مدعاة للشفقة التي طالما كان ينكرها ولا يريد لأحد أن يشفق عليه وهو الذي وقف إلى جانب المظلومين في كثير من المواقف التي جعلت منه رمزًا يلتفّ حوله المستضعفون؟ إن كنت تجهل من يكون فما أظنّ أحدًا يجهل من يكون الفتى الشقي مفيد. إنّه الصورة الصادقة -أي مفيد- لهذا الشعب الذي وقف في وجه خصومه وأعدائه ولم يجد له النصير. لكن، مع الأسف، وفي مشهد تراجيدي حزين آلمنا جميعًا أن نرى مفيد الوحش، القرويّ، الرومانسيّ، الطيّب، البسيط، والشجاع، لا يجد أيّ معنى لحياته ولا يرى في استمراره في هذه الحياة إلا لعبة عبثيّة يجب إيقافها، فيقرّر وببسالة فائقة أن يضع حدًّا لحياته تلك في مشهد أخير. ولسنا اليوم -في واقع نعيشه- بأفضل مما كان عليه مفيد، فكيف تكون النهاية؟ ومن يرسم خطوطها؟ وهل سيصوّب فريد مسدّسه إلى صدغه ويطلق؟ هل سيطلق ذاك النمر القابع في أتون الشعب رصاصته الأخيرة؟ لكن كيف؟ وأين؟ فلئن كانت كما أرادوا لها أن تكون تلك النهاية فلا أظنّها تكون إلا كنهاية طائر الفينيق، لا يلبث أن يعود من جديد ليبعث روح الحياة لمفيد ويعيد لذاك الوحش رجليه المقطوعتين، ويعود مفيد من جديد، مفيد متوقّد عتيد. سيكون حينئذ لهذا الشعب العظيم بداية حياة وليس النهاية وستكون له من لبيبة الكثيرات يروين عنه الأساطير والبطولات وليس نهاية حياة كما فعلت لبيبة الشقرق.