تسارع الأحداث في سوريا من سيطرة النظام على درعا، إلى ملف اللاجئين، يكشف مدى تمدد الامبراطورية الروسية في المشرق. قبل أسابيع فقط، كان المسؤولون الإيرانيون يواصلون قرع طبولهم عن التمدد الإيراني، وسيطرتهم على ثلاث عواصم عربية (بغداد ودمشق وبيروت)، ولكنهم صمتوا فجأة اثر بضع صفعات روسية، يبدو أنها أعادتهم لحجمهم الطبيعي، إعلامياً على الأقل. بيد أن الإيرانيين لم يتركوا فرصة إلا ونفخوا فيها في أبواقهم. تناوب على اعلانات السيطرة والانتصار مختلف قيادات الحرس الثوري والبحرية والقوات البرية، وأيضاً تشكيلة من المسؤولين السياسيين. مقابل كل هذه التصريحات الرنانة، بدا الروس أكثر دقة وتخطيطاً وتنسيقاً في خطواتهم.
قبل أيام قليلة، كشف أحد المسؤولين الكبار في وزارة الدفاع الروسية خلال مؤتمر صحافي أن روسيا قدمت للولايات المتحدة خلال قمة هلسنكي، اقتراحات لتنظيم عودة اللاجئين السوريين وتمويل عمليات إعادة إعمار البنية التحتية السورية. المسؤول، وهو رئيس المركز الوطني لإدارة شؤون الدفاع الفريق أول ميخائيل ميزينتسيف، أوضح أن الاقتراحات تتضمن “وضع خطة مشتركة لعودة اللاجئين إلى الأماكن التي كانوا يعيشون فيها قبل النزاع، وبخاصة عودة اللاجئين من لبنان والأردن، وتشكيل مجموعة عمل مشتركة روسية – أمريكية – أردنية برعاية مركز عمان للمراقبة، وكذلك تشكيل مجموعة عمل مماثلة في لبنان”.
رغم أن التصريحات وصفت هذه الخطة بأنها اقتراحات يدرسها الجانب الأميركي، إلا أن التفاصيل تُوحي بأنها قيد التنفيذ. وفقاً لميزينتسيف، أنشأ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مقر تنسيق مشترك خاص بعودة اللاجئين، ويضم مسؤولين من وزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين، ويخضع إلى إدارة المركز الوطني لإدارة شؤون الدفاع الروسي. ووفقاً لنص الخبر في “روسيا اليوم”، من المقرر توسيع هذا المقر، وإشراك مسؤولين في هيئات ووزارات أخرى في عمله، كما من غير المستبعد مشاركة ممثلي الدول الأجنبية والمنظمات الدولية في عمله. أشار الخبر أيضاً إلى دور مركز استقبال وتوزيع وإسكان اللاجئين في دمشق، وفروع له على الحدود السورية مع الأردن ولبنان.
عملياً، وضع الروس خطة متكاملة لعودة اللاجئين السوريين، وربطوا تنفيذها بتشكيل مجموعة مشتركة لتمويل إعادة إعمار البنية التحتية السورية.
سريعاً، طلب رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري من مدير مكتبه في موسكو (مستشاره للشؤون الروسية) جورج شعبان التواصل مع المسؤولين الروس “للوقوف على التفاصيل”. شعبان اجتمع مع رجل موسكو الأول في الشرق الأوسط: ميخائيل بوغدانوف. طرق مستشار رئيس الحكومة المكلّف الباب الصحيح، لكن تصريحه لم يأت بأي اضافة على إعلان وزارة الدفاع الروسية، بل اكتفى بإعلان تأييد الحريري الخطوة الروسية والثناء عليها.
وبوغدانوف الناطق باللغة العربية، من السياسيين الملمّين بتفاصيل المنطقة منذ عهد الاتحاد السوفييتي، ومعروف بصلاته الأمنية في موسكو، وإحاطته بتفاصيل الملفين السوري واللبناني. الرجل أمضى حياته الدبلوماسية في المنطقة. بعيد تخرجه من معهد موسكو المرموق للعلاقات الدولية، تسلم منصب سفير الاتحاد السوفييتي في اليمن الجنوبي (1974-1977) وعُيّن بعدها سفيراً في لبنان (1977-1980)، وسوريا (1983-1989)، ومن ثم سفير الاتحاد الروسي إلى سوريا ومصر والأردن واسرائيل، ومدير قسم الشرق الأوسط في الخارجية الروسية. يتبوأ بوغدانوف حالياً منصبين هما الممثل الخاص للرئيس الروسي في الشرق الأوسط وأفريقيا ونائب وزير الخارجية الروسي، ويلتقي دورياً المسؤولين اللبنانيين ومن ضمنهم رئيس الجمهورية.
بوغدانوف عملياً هو “قاسم سليماني روسيا” في المنطقة، ولم ير ضرورة لاحاطة المبعوث اللبناني بتفاصيل التحرك الروسي. ذاك أن إعلان هذه الخطة لم يأت بالتنسيق مع المسؤولين اللبنانيين والأردنيين، بل جاء منفرداً بصيغة اقتراحات لواشنطن، وأيضاً مرفقاً بحديث عن دور لدول الجوار دون سؤالهم عن ماهيته.
وهذه طريقة عمل فوقية لدى المسؤولين الروس سيشعر بها المسؤولون اللبنانيون تدريجياً خلال المرحلة المقبلة. سيسمعون الأخبار في المؤتمرات الصحافية للمسؤولين الروس، ثم يؤدون واجب الثناء عليها كلما اقتضى الأمر.