بعد أن فرض أسلوب الـ”تيكي تاكا” هيمنته على كرة القدم الأوروبية في السنوات الأخيرة، أتت بطولة كأس أمم أوروبا 2016 (يورو 2016) لتضع حدًا بعض الشيء لتلك الهيمنة.
ولكن كأس العالم 2018 أعلن رسميًا، كما يرى كثير من متتبعي كرة القدم، نهاية حقبة هذا الأسلوب، الذي عجز كبار المدربين عن فك شيفرة الأندية والمنتخبات التي تتقنه.
وسقطت “تيكي تاكا” أمام الأساليب التي تعتمد بالمقام الأول على اللياقة والقوة البدنية والحذر الدفاعي.
توصيف المشكلة وانعدام الحلول
في المواجهة التي خاضتها آيسلندا أمام المنتخب الأرجنتيني بالجولة الأولى من الدور الأول لبطولة كأس العالم، قرر الآيسلنديون إغلاق المساحات الدفاعية واللعب على المرتدات، وتمكنوا بذلك من خطف نقطة التعادل من زملاء ميسي.
وكرر المكسيكيون الأمر ذاته مع المنافس ألمانيا، متصدر لائحة الترتيب العالمي، وتمكنوا بالفعل من الفوز بهدف نظيف.
في هذين الموقفين، وغيرهما أمثلة كثيرة، أصبح التكتل الدفاعي وغلق المساحات، قرارًا واقعيًا، تلجأ إليه الفرق الضعيفة، والتي ليس لديها لاعبون قادرون على خلق الفرص للفوز أو كسب نقطة على الأقل.
ومن خلال هذه القراءة، بات من الواضح أن الحلول الفعالة للفرق التي تعتمد على الكرات القصيرة والسريعة غابت، وأصبحت هذه الطريقة استحواذًا سلبيًا لا معنى له.
كما بات من الجلي أن الفلسفة الجماعية في كرة القدم تواجه مشكلة كبيرة، إذ تصبح مرهونة بتناغم مجموعة معينة لجيل واحد لعب مع بعضه لفترة طويلة، وهذا ما يعني أنه مع بداية بلوغ تلك المجموعة الثلاثينيات واعتزال البعض وفقدان آخرين لسرعتهم وكفاءتهم، أو حتى بمجرد أن يسوء يوم أحد اللاعبين، يؤدي كل ذلك إلى هبوط الفريق بشكل مفاجئ واختلال توازنه.
مونديال روسيا ونهاية عصر الكرة الشاملة
أعلن مونديال روسيا نهاية سيطرة الكرة الشاملة وأسلوب الـ ”تيكي تاكا” في الوقت ذاته، إذ فشلت المنتخبات التي تعتمد عليه بتحقيق نتائج جيدة، وخاصة منتخبات ألمانيا وإسبانيا والأرجنتين.
ويعود انهيار الأسلوب إلى عدد من الأسباب الموضوعية، وأبرزها انخفاض جودة اللاعبين أو اعتزال من أتقنوا فن اللعب هذا، فيما لم يكن البدلاء بذات المستوى، الأمر الذي لم يسمح لهم بتطبيق الكرة ذاتها بالنتائج ذاتها، فضلًا عن الاستراتيجية الدفاعية المتبعة لدى الكثير من المنتخبات والتي عملت على تبني النهج الدفاعي ضد الفرق الكبرة المعتمدة على الكرة السريعة والقصيرة، ما سبب عائقًا أمام اختراق العمق في الهجمات.
وشكل الانخفاض الكبير بمستوى مركز المهاجم الصريح (رأس الحربة) بشكل عام عائقًا كبيرًا أمام الفرق التي تمتلك خط وسط قويًا، إذ كان من المسلم به أنه لا يمكن الفوز بالمواجهات دون مهاجمين جيدين، ليؤدي ذلك أيضًا إلى انخفاض الكم التهديفي للفريق.
هل ينتهي أسلوب الكرة الشاملة؟
مع اختلاف المدارس وتبدل الأساليب من مدرب لآخر ومن مدرسة لأخرى، لا يندثر أي منها تمامًا، لكن الثابت تاريخيًا أن هناك مدارس تسيطر في فترة من الفترات بينما تخمد ثورة مدارس أخرى، كما هو الحال بالنسبة لأسلوب الـ “كاتيناتشو” الإيطالي (القفل)، الذي عاد للظهور بقوة خلال العامين الأخيرين.
لكن آراء كثيرة اتجهت إلى أن انتهاء الكرة الشاملة سيجبر المنتخبات والأندية على اللعب بطرق جماعية أكثر، ما يضمن توظيف المهارة الفردية لخدمة الفريق والأداء الجماعي، وهذا ما نجح به مدرب المنتخب الكرواتي زلاتكو داليتش مع فريق بلاده في مونديال روسيا.
نظرة تاريخية على “تيكي تاكا”
سافر منتخب الأوروغواي عام 1924 إلى العاصمة الفرنسية باريس للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية، ولعب بأسلوب التمريرات القصيرة، الذي كان مختلفًا عن الأسلوب الأوروبي السائد آنذاك، وفاز في كل المباريات حتى وصل إلى المباراة النهائية، وتوج بالميدالية الذهبية على حساب سويسرا، بنتيجة ثلاثة أهداف مقابل هدفين.
الكرة الشاملة مصطلح يطلق على طريقة تكتيكية غزت عالم كرة القدم يقوم مفهومها على أن أي لاعب في الملعب يستطيع تغطية مركز لاعب آخر من نفس الفريق.
وعلى الرغم من أن الأوروغواي هي أول من لعب بهذا الأسلوب، إلا أن النظرية هذه اخترعها رينوس ميخلز الذي كان مدربًا لنادي أياكس أمستردام والمنتخب الهولندي في سبعينيات القرن الماضي.
وتمكن ميخلز من الوصول إلى نهائي كأس العالم، من خلال اللعب بهذ الطريقة، إلا أنه لم يتمكن من إحراز اللقب حينها.
تواصل بعدها الاعتماد على أسلوب الكرة الشاملة، وتطور كثيرًا، إلى أن نتج عنه في بدايات الألفية الثالثة أسلوب الـ “تيكي تاكا”، الذي انتهجه المنتخب الإسباني، وهيمن من خلاله على البطولات العالمية.
يعتبر المدرب الإسباني أراجونيس المؤسس الحقيقي لأسلوب “تيكي تاكا”، والذي اعتمد خطة 4-3-3 مع الاستحواذ على الكرة كتكتيك بحد ذاته، وذلك بتمريرها بسرعة في تمريرات قصيرة تزحف بعرض الملعب بين مجموعة لاعبين لا تقل أبدًا عن ثلاثة، ومن ثم التقدم بدأب نحو مرمى الخصم بشكل جماعي، وليس بالضرورة بمهارة “اللاعب النجم”، على أن يسجل أي واحد من اللاعبين حين يتسنى له ذلك.
رحل أراجونيس بعد تتويج إسبانيا بيورو 2008، وخلفه في موقعه فيسنتي دِل بوسكي، ورغم الاختلاف الواسع بين الرجلين، إلا أن دِل بوسكي سار على درب أراجونيس في عدة أمور أتاحت له إكمال المسيرة الذهبية للإسبان، مع إدراكه أن “تيكي تاكا” هي مفتاح المسيرة الاستثنائية التي استشرفها أراجونيس، وإن تغيّرت التفاصيل التكتيكية من مباراة لأخرى.
المدرب الإسباني بيب غوارديولا يعتبر المدرب الأكثر حرصًا على تطبيق “التيكي تاكا”، إذ استفاد من أسلوب أراجونيس وقام بتطويره وإدخال العديد من التعديلات عليه، مع الاحتفاظ بأساس الأسلوب المعتمد على الاستحواذ الكامل وعدم إتاحة الفرصة للخصم للمبادرة والسيطرة على اللعب، وقد نجح من خلال الاعتماد على هذا الأسلوب بالفوز بلقب الدوري الإسباني مع برشلونة، والدوري الألماني مع بايرن ميونيخ، والدوري الإنكليزي مع مانشستر سيتي.
يقول فيلسوف الكرة الحديثة بيب غوارديولا عن الأسلوب الذي انتهجه “يجب أن تلعب بفلسفتك، بالطريقة التي تحب اللعب بها، أكره مصطلح تيكي تاكا، لأنه أصبح يعني تمرير الكرة دون جدوى، لاتصدقوا كلام الصحف، بالبارسا لم نكن نلعب تيكي تاكا كما يقولون، نحن نقوم بإجبار الخصم على العودة للدفاع لكي نهاجمه كما نشاء”.
ويقصد مدرب مانشستر سيتي الحالي، غوارديولا، بكلامه أن الأسلوب الذي تلعب به هو ما يجعلك تفوز، فلكل مدرب فلسفة خاصة، لربما كانت مستمدة من الأساليب القديمة أو الحديثة، أو هي دمج بين الاثنتين، أو قد يكون أسلوبًا جديدًا ابتكره المدرب ولعب فيه أمام خصومه.
كيف حمل ديشامب الكأس بأداء “غير مقنع”؟
واجه ديديه ديشامب، المدير الفني للمنتخب الفرنسي، الكثير من الانتقادات على الصعيدين المحلي والعالمي، وتحدثت صحف ومحللون رياضيون عن أسلوب لعب فريقه “الممل” والدفاعي، إلا أنه بالرغم من كل ذلك وضع النجمة الثانية على قميص منتخب بلاده كمدرب، بعد أن وضعها كقائد ولاعب.
ينتهج ديشامب أسلوب التحفظ وانتظار رد الفعل، سواء واجه خصمًا قويًا أو أضعف منه (دفاعيًا كان أو هجوميًا)، لذلك وضع ثقته في المنظومة الدفاعية التي يمتلكها وتراجع للخلف بخطة 4-5-1.
واعتمد بذلك على الثنائي رافائيل فاران وصامويل أومتيتي، أفضل ثنائي دفاعي في المونديال، مع مفاجأة البطولة الظهيرين بنيامين بافارد ولوكاس هيرنانديز وأمامهم كانتي بخط الوسط الدفاعي ويسانده بوغبا الذي يقوم بمهمة وسط الملعب صاحب المهام الدفاعية والهجومية، وعلى يمينهم مبابي الجناح الطائر وفي اليسار بلايز ماتويدي كلاعب تحولات يقدم الدعم لكل خط احتاجه ويحاول الحفاظ على توازن خطوط الفريق، مع كريزمان صانع الألعاب خلف المهجم جيرو.
ولعل المواجهة النهائية هي الدليل الأكبر على أسلوب ديشامب الذي أوصله إلى الدقيقة 90 بأقل تكلفة دون الاضطرار إلى اللجوء للوقت الإضافي أو ركلات الترجيح.
وتمكن المنتخب الكرواتي في اللقاء النهائي من السيطرة على وسط الملعب لفترات طويلة، واخترق الوسط الكرواتي وسط المنتخب الفرنسي بسهولة في كل مرة يستلم فيها مودريتش أو راكيتيتش الكرة أسفل الأطراف، فيستدرجان خط الضغط الفرنسي ويفتحان بذلك المساحة للظهير الأيمن المتقدم والجناح، ما سبب إزعاجًا كبيرًا لمدرب يعتمد على المنظومة الدفاعية. لكن هناك عوامل كبيرة ساعدت ديشامب على التقدم، وعلى رأسها سرعة جناح الفريق إمبابي، إلى جانب ضعف المستوى البدني لكرواتيا، التي خاضت 360 دقيقة لعب خلال عشرة أيام.