هلسنكي والحصة السورية                                      

  • 2018/07/22
  • 11:10 ص
حذام زهور عدي

حذام زهور عدي

حذام زهور عدي

ليس غريبًا أن تُعقد لقاءات ومؤتمرات للدول العظمى تبحث مصالحها وتضع الخرائط والحدود متقاسمة سكان الكرة الأرضية وأوطانهم وحيواتهم وفق تلك المصالح، أو وفق مصالح المتنفذين وأصحاب القرار الفعليين لديهم، لكن المستغرب أن يتابع السوريون، وبخاصة نخبتهم الثقافية والسياسية، متابعةً حثيثة بتلهف غير بسيط، أخبار لقاء ترامب- بوتين ليعرفوا من خلال ذلك اللقاء مواطئ أقدامهم، وكأنما سلموا للمصائر التي يخططها الرئيسان البربريان لمستقبلهم ومستقبل وطنهم، وقبلوا منهما الشطب على مصالح الشعب السوري وعلى إرادته، وباتوا يتنافسون في إذاعة التسريبات والأحاديث، مفسرين الحركات والنظرات وتعابير الوجه تارة سلبًا، بمعنى عدم وجود حل للوضع السوري في المدى المنظور، وأخرى إيجابًا بمعنى أن الحل يطرق الأبواب وأن بشائر تغيير النظام تلوح بالأفق.

والمضحك المبكي أن الرئيسين المجتمعين في هلسنكي كانت الحالة السورية من أسهل الحالات التي بحثاها، لسببين: الأول أن أصحابها لم يعد لهم وجود يُحسب له حسابًا، فقد تفرقوا شذر مذر وضاعوا في أصقاع أرض الله الواسعة، واضطرب حالهم بين قتيل وجريح ومعتقل ومشرد وشبيح وفقير لا يملك قوت يوم ٍله أو لعياله، والمحظوظ بينهم من استطاعت زوجته أن تتحول إلى “شيفة مطبخ أو طباخة” يستر نفسه وأهله من خلال عملها. والثاني أن الرئيسين ممثلي الدولتين العظيمتين كانا على توافق وتنسيق بين نظاميهما، قد يكون ذلك التنسيق قبل تولي أحدهما الرئاسة من سنوات بدء الثورة، بل ربما قبلها عبر الحكومات العميقة لكلٍ منهما، وقد تباهى السيد بوتين بإعلان التنسيق والانسجام الكلي بين الجيشين في سماء سوريا وعلى أرضها، وسواء أبالغ بوتين بالحديث عن التنسيق والانسجام لأغراض إعلامية أو لتوريط الرئيس الأمريكي بالجرائم التي ارتكبها في سوريا، فإن الشعب السوري بعربه وكرده لمس ذلك التنسيق ورآه رأي العين في المناطق السورية المختلفة التي جرت تلك الجرائم فيها، من شرق الفرات إلى غربه إلى الشمال والجنوب مرورًا بالغوطة…الخ.

والحقيقة المرة أن موضوع التنسيق وغيره لم يعد يهم الشعب السوري كثيرًا بعدما فقدت قيادته كلها القرار (النظام والمعارضة، الثوري والموالي والرمادي)، أو حتى التأثير بتعديل القرار المصيري لصالح هذا الشعب المنكوب، وتحولت المصالحات والمفاوضات إلى أوامر تأتي ممن بيدهم الأمر والنهي، للتنفيذ فقط، وبوقاحة لا تخلو من الاحتقار والسخرية والإذلال والإقهار المتعمد.

بالعودة إلى لقاء الثعلب مجنون العظمة بوتين، مع الثور المجنون الآخر، نستنتج ومن خلال المؤتمر الصحفي الذي ظهر ترامب فيه وكأنه قد أكثر من فودكا ثقيلة قدمها له نظيره قاصدًا توريطه علنًا بأمور تشيب لها المؤسسات الأمريكية المعروفة، بحيث لم يعد يميز بين اللا والنعم، ولا بين المفردات الدبلوماسية أو المفردات الشعبوية التي تبنى عليها مواقف وسياسات الدولة، داخليًا وخارجيًا، نستنتج أن أهم ما كان يهم الرئيسين كموضوعٍ أول هو مصالح الغاز والنفط والاستثمارات الأخرى، أما الموضوع المهم الثاني فهو ذاك الذي دوّخ بوتين به ترامب والشعب الأمريكي، وهو حكاية التدخل الروسي بالانتخابات الأمريكية التي أصبحت اللعبة المفضلة لبوتين، إذ يُظهر تحكمه بالعالم من خلالها، وبالمقلب الآخر يبث الارتباك بالسياسة  الأمريكية والأوروبية التي بدأت تخشى ألاعيبه وتحسب لها الحسابات الجادة، واتهامات بريطانيا وفرنسا له كانت معلنة بمحاولته التأثير إلكترونيًا وإعلاميًا بانتخاباتهما.

ما يُستنتج من ذلك اللقاء سوريًا أمران، الأول: التوصل إلى تحقيق الرغبة الإسرائيلية بتحديد حدودها مع سوريا للموافقة على ابتلاعها الجولان، مع أن خلافًا مضمرًا ظهر بين الاثنين حول تلك الحدود، إذ لم يُرِد بوتين التورط الواضح بالموافقة على احتلال الجولان تمامًا وأضمر ذلك بتعليق الأمر على قرارات الأمم المتحدة بدون تحديد، بينما أعلن ترامب عن اتفاقهما على حدود اتفاقية فصل القوات عام 1974.

والأمر الثاني: التنسيق الدائم بينهما والاتفاق على ضرورة الحل السلمي، وترجمة هذا الكلام واقعيًا -على عموميته- تصفية المسلحين السوريين بأشكال مختلفة قد يكون بينها الإبادة لمن لا يباع ويشترى، ثم تقاسم يُتفق عليه فيما بعد، وبالطبع تغييب كامل للسوريين جميعًا ولكل ما يتعلق بطموحاتهم أو مصالحهم. أما التفاصيل فإما أنهما احتفظا بها سرًا أو أنها لم تنته بعد.

أما إيران، السبب الأكبر لمصائب السوريين، فلم ينبس حولها الثعلب بوتين ببنت شفة، بينما أكثر ترامب من طلب تحجيمها، وكف عدوانها على جيرانها، دون توضيح لمدى التحجيم أو تفصيله، أو طُرقه.

وبغض النظر عن الصورة التي ظهر بها ترامب للعالم، فإن بوادر تحالفات عالمية جديدة وتباعد تحالفاتٍ معروفة تلوح بالأفق، فقد أوحى لقاء هلسنكي لعدد من الكتاب المحللين أن انفراجًا ما يطال العداوات القديمة وتعكير أجواء التحالفات التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، وأهمها الموقف الأمريكي من أوروبا ودولها الكبرى (فرنسا، وألمانيا، وإنكلترا) والجديد القديم أن العامل الاقتصادي هو اليوم كما كان دومًا، الحكم الفصل في كل ما جرى ويجري.

لقد تعرف العالم على دول الشرق الأوسط من خلال النظام العالمي الذي أنجبته الحربان العالميتان الأولى والثانية، والذي شهد تصفية الاستعمار الكولونيالي وظهور الإمبريالية بتعقيداتها الكبرى، ولكن القرن الواحد والعشرين بدأ يشهد ملامح تشكيل جديد مع ظروف انتهاء الحرب الباردة واضطراب نظرية العولمة وانهيار الاتحاد السوفييتي وأزمات اقتصادية لأقطاب دولية مهددة بالإفلاس.

فأين سيكون موقع السوريين والشرق العربي كله منه؟

لا شك أن السوريين تعلموا من مأساتهم الكثير، ولا شك أن أهم ما تعلموه ألا يتركوا مصيرهم لأي صوت بعيد عما يعانونه هم، إن حصة سوريا، بالرغم من كوارثها، التي خصصها لها المتوحشان الأكبران في العالم هي أكثر من مأساة أخرى، وأكثر من مزرية، ولا يمكن لسوريا الحضارة أن تنهض مرة ثانية إلا بأيدي أبنائها، سيعود السوريون ليبدؤوا بناء سوريا الوطن لأبنائه جميعًا.

إن الإنسان الألماني أو الياباني الذي نهض بوطنه ونافس، بل تفوق، على أكبر الدول صناعة وحداثة حضارية ليس أفضل من الإنسان السوري، ستُستعاد سوريا ولن ينسى أبناؤها الدماء التي أزهقت ظلمًا وعدوانًا، ولن يسمحوا بعد اليوم أن يتحولوا إلى خرق بالية يمسح بها متوحشو العالم قذاراتهم.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي