مع النص السادس أو السابع من ديوان “أثر الفراشة”، يدرك القارئ مبكرًا أن محمود درويش يصب بشكل عفوي خلاصة فكره وعواطفه وتجربته الأدبية واللغوية في كتاب أخير، ويمهد فيها لموت لن يطيل الانتظار حتى ينهي حياة الشاعر والكاتب الفلسطيني الأهم في القرن العشرين.
كما توحي نصوص الكتاب بشكل هذا الموت، إذ تثقل صدمات العقد الأول من القرن الواحد والعشرين قلب درويش حد انسداد الشرايين، لدرجة أنه لم يقوَ على إتمامه، وفارق الحياة في العام الثامن منه، وهو عام نشر ديوانه “أثر الفراشة”.
يغلب النثر الشعري على النصوص المسكوبة بغزارة في 276 صفحة، في محاولة للتخلص من عبء القافية والوزن والانتقال إلى حالة أكثر خفة، ويبرر درويش ذلك في النص الثالث “الصيف لا يصلح للإنشاد إلا فيما ندر. الصيف قصيدة نثرية لا تكترث بالنسور المحلقة في الأعالي”.
والصيف هو الزمن الذي شهد على مواضيع أغلب النصوص في الديوان، وهو حرب تموز في لبنان عام 2006، وحرب غزة عام 2007، وهو “جفاف العشب” و”جفاف الرغبة” لدى محمود درويش في كتابه الأخير.
يراكم درويش انكساراته الجديدة في عناوين قصيرة مصممة لما لا يتجاوز مئتي كلمة في النص النثري الواحد، بشكل يختلف عن “انكسار أوسلو” الذي غيّر المشهد الشعري لدرويش بعد عام 1993، عام الصدمة التي نزلت على درويش وحيًا من القصائد غزيرة الرمزية، تحمل سوداوية الانتقال إلى مرحلة التدريب على اليأس.
أما في ديوانه الأخير فيبدو درويش قد أحسن التدريب فعلًا وقدّم إقرارًا ثقيلًا بالانسلاخ عن الحدث، ومتابعته عبر شاشات التلفاز، كما أحسن التأثر به كإنسان عادي، ولم يبدِ استعدادًا للمقاومة حتى بالكلمات، بينما ترك فسحات صغيرة من أمل لا يخصّه شخصيًا على شكل “أزهار صفراء توسع ضوء الغرفة” و”حمامة تبني عشًا في مدخنة” و”فتيات صغيرات”.
بُني العنوان الرئيسي للديوان، على عنوان قصيدة “أثر الفراشة”، وهو ما دفع بالنقاد إلى التوسّع في شرح القصيدة، والبحث وراء رمزيتها، متعمدين بذلك على نظرية الفيزياء الشهيرة “أثر الفراشة” التي تقول بوجود روابط خفية بين الأحداث المختلفة، وأنه لا وجود أبدًا للصدف.
ويمكن القول إن بُعد هذا الأثر عند محمود درويش ميتافيزيقي بقدر كونه فيزيائيًا، فهو الوحي والإلهام والغموض، وهو الحدث وتأثير الجزء على الكل، كما أن الفراشة، هي كل فيزيائي يخفّ حد الاحتراق بالنور ليتحول معنى ومغزى.
ولعلّ تلك الصورة، هي الترجمة الفعلية لحالة درويش النفسية في أعوامه الأخيرة المترجمة في نصوص الكتاب، حين التمس “خفة الأبدي في اليومي”، وآمن بالنهاية وما تتركه من سكينة، حين قال “أشواق إلى أعلى وإشراق جميل”.