المربعات الأمنية مجرد بداية
قسد تستدير نحو النظام والروس
أيهم طه
شهدت موازين القوى على الأرض السورية الكثير من التغيرات، ربما كان النظام هو الأكثر استفادة منها، لكونه يمتلك خبرات متراكمة في مجال السياسات الدولية والإقليمية والمحلية، وهي المجالات الثلاثة التي لا بد لأي لاعب على الأرض من العمل فيها وبشكل متواز، ليتمكن من اجتياز الخيوط المتشابكة في القضية السورية.
ورغم أن الكثير من القوى التي ظهرت على الساحة، حاولت جهدها السير على هذه الحبال إلا أن معظمها سقط وإن مرحليًا، ليبقى القليل من القوى التي تمتلك خبرة سياسية وأذرعًا عسكرية فاعلة على الأرض متنافسة على الساحة السورية، هي قوات النظام التي باتت تسيطر على أغلب المحافظات وأهمها دمشق (العاصمة السياسية)، وحلب (العاصمة الاقتصادية)، فضلًا عن بعض المناطق ذات الأثر المعنوي والأهمية الجيوستراتيجية، وبعض الفصائل العسكرية التي تسيطر على جزء واسع من الشريط الحدودي السوري التركي في ريف حلب (معززة بدعم تركي مباشر)، إضافة إلى “جبهة النصرة” أو ما بات يعرف بـ ”هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على جزء واسع من محافظة إدلب، وتمتلك علاقات إقليمية ربما تتمكن من خلالها البقاء على الساحة إذا تمتعت بالمرونة الكافية للتأقلم مع الظروف الدولية المستجدة، إضافة إلى الجيوب التي يمتلكها تنظيم “الدولة الإسلامية” المتمتع ببعض الميزات، والتي بدورها قد تمكنه -وإن بشكل أقل عن باقي القوى- من الاستمرار في الوجود.
لكن القوة المعارضة الأبرز تبقى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والتي تشكل ببعدها السياسي والعسكري والإداري الجسم الأقوى بما تتمتع به من علاقات دولية وخبرات سياسية وقانونية وعسكرية وانضباط إداري وجنائي وأدوات ضغط محلية ودولية .
وربما كان من أخطاء المعارضة الابتعاد عن التنسيق مع هذا الجسم خلال الفترة السابقة، مدفوعة بضغط إقليمي، وبسبب بعض الخلافات التي لا مجال لذكرها هنا، لكنها على أهميتها لم تكن تكفي لنسف التنسيق ورفضه بشكل مطلق.
وهنا لا ينفع الندم، فـ ”قسد” ببعديها السياسي والعسكري فقدت، خلال الفترة الماضية، الكثير من نقاط قوتها وأهمها انخفاض الدعم العسكري والسياسي الدولي، ورغم استمرار وجود قوات التحالف الدولي في مناطق “قسد” وانتشار قواعدها، إلا أن تصريحات مسؤولي تلك الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تؤكد اقتراب تخفيض القوات الدولية، وربما انسحابها بشكل كامل مع مرور الوقت وارتفاع تكاليف البقاء عسكريًا وماليًا وبشريًا، مع ما يعنيه ذلك من رفع غطاء الحماية عن “قسد” وتركها مكشوفة في محيط معادٍ أو غير متفاهم في أقل التوصيفات .
وهذا ما عبر عنه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بنفسه، عندما كشف عن خسائر أمريكية بعشرات الملايين من الدولارات، ودون مكاسب فعلية، مؤكدًا نية بلاده الانسحاب، ومطالبًا بعض القوى الدولية والعربية بالحلول مكانها، وما رافق ذلك من رغبة أوروبية بإنهاء الصراع السوري (لضمان عدم عودة شبح الإرهاب في المنطقة)، وتقارب روسي- أمريكي، وتفاهم أمريكي- تركي حول إدارة بعض المناطق، ومنها بلدة منبج في ريف حلب، لطمأنة الأتراك بعدم تمدد المشروع الكردي، وقد سبق ذلك موقف أمريكي خجول من إنهاء السيطرة الكردية على مدينة عفرين، شعر معه الأكراد بالخذلان وخيبة الأمل.
كما أن جغرافيا “قسد” باتت تعاني من عزلة شبه كاملة، مع وصول “الحشد الشعبي” إلى حدودها العراقية، وفرض الحكومة العراقية على إدارة إقليم كردستان استلام الإدارة المشتركة للمطارات والمعابر البرية، وبهذه الحالة تخسر الإدارة الكردية معبر “سيمالكا” الذي شكل لفترة معينة أحد شرايين الحياة الأساسية لمناطق “قسد”، وحيث انخفضت الحركة الحدودية التي تصبح أكثر فأكثر خاضعة لقوانين الحكومات المركزية في كل من سوريا، والعراق، وإيران، وخاصة بعدما حدث عقب الاستفتاء في كردستان العراق وخيبة الأمل الكردية العراقية التي أعقبته، جراء تراجع الدعم الدولي لنتائج هذا الاستفتاء .
أما شمالًا فالعلاقة مع الجانب التركي متوقفة تمامًا، وحيث يعيش الطرفان حالة من القطيعة والعداء بما يتضمنه ذلك من انعكاس على العلاقة مع المعارضة التي تعيش في الظلال التركية وفصائلها، يضاف إلى ذلك ما تركته تجربة تقدم الجيش التركي نحو عفرين من آثار ومخاوف من تمدد جديد نحو مدن ومناطق كردية أخرى.
يشار إلى أن المعابر الحدودية السورية- التركية مثل معبر تل أبيض في مناطق “قسد” مغلقة بشكل كامل منذ سيطرة “قسد” عليها وطرد تنظيم “الدولة الإسلامية” منها.
أما في الشرق والجنوب يحاول النظام السوري احتواء “قسد” وإرغامها على العودة إلى أحضانه وبشروطه، وهذا ما دفع القيادة السياسية لـ ”قسد” للاستدارة نحو الروس والنظام مع قلة خياراتهم وتنازلهم عن الكثير من أحلامهم ومطالبهم بعد خيبات الأمل المتتابعة، وبدا ذلك واضحًا في طلبهم الحوار مع النظام دون شروط مسبقة، وهذا ما رفضه النظام في ظل ضعفه خلال السنوات السابقة، ولن يقبل به في الوقت الحاضر مع شعوره بضعف “قسد” وزيادة قوته.
وربما هذا ما عبر عنه أحد قادة القوات الأمريكية (فوتيل) حين قال، “إننا نفهم أيضًا الحقيقة البراغماتية على الساحة، ففي تلك الساحة جميع الأطراف تتحدث (تتواصل) مع بعضها، وهذا ضرورة حياة في تلك المنطقة”.
أما محليًا فالإدارات المحلية والمجالس المدنية التابعة لـ “قسد” لا تزال بعيدة عن تكوين حاضنة شعبية تحميها وتوفر لها الدعم الشعبي، ومرد ذلك إلى عوامل اقتصادية وإدارية، ووجود حساسيات داخلية لم تفلح إدارة “قسد” وما يتبع لها في تفاديها، ولا بد من ملاحظة الحراك الشعبي في مناطقها وتزايد الاحتجاجات على بعض تصرفاتها، إذ أدركت الإدارة الكردية أنها لم تعد تمتلك الوقت والخيارات والبدائل، وربما هذا ما دفعها للتصريح بأنها لا تضع كل بيضها في سلة واحدة ولا تراهن على طرف دولي واحد، والمقصود هنا ( الولايات المتحدة الأمريكية)، ولا تعتمد على قوة دولية معينة، وزاد في دفعها نحو النظام السوري، إذ يسعى هذا إلى احتوائها لتكون أحد المكونات السياسية داخل جسم النظام ولكن بشروطه وتحت أحكامه.
وهذا ما بدا واضحًا في فرض النظام لوجود مربعات أمنية تابعة له في جميع مناطق “قسد”، وفرض رفع صورة رئيس النظام وأعلامه في مقرات الإدارة التابعة له، والتقليل من الأعلام والشعارات الخاصة بها في تلك المناطق، ليعيش معها في حالة مساكنة مؤقتة، لها ظروفها ودوافعها المحلية والإقليمية والدولية.
لكن المؤكد أن “قسد” فقدت الكثير من نقاط قوتها التي لا يمكن تعويضها، وأجبرتها الظروف على العودة إلى حضن النظام والروس، وهذا يعني خسارة مكون مهم وأساسي من مكونات المعارضة السورية، كان يمكن أن يشكل حاملًا قويًا لبقية قوى المعارضة وداعمًا لمطالبها بالتغيير.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :