بين إصدار إخراجات القيد.. وتوزيع وثائق الموت
موجز تاريخ دوائر السجل المدني
إبراهيم العلوش
مثل معظم دوائر دولة الاستبداد، كانت دوائر النفوس، أو السجل المدني مرتعًا للفساد، والرشاوى، والتزوير، وكان المدراء مع كبار موظفيهم يلتقطون الزبائن من المراجعين اليائسين عن طريق مكاتب تعقيب المعاملات، التي تنتشر بالقرب من تلك الدوائر، أو في مكاتب بعض المحامين للصفقات الكبيرة. وتتراوح صفقاتهم بين تسجيل ولادة متأخرة أو التواطؤ بعدم إرسال اسم بلغ صاحبه سن الثامنة عشرة إلى شعبة التجنيد بالحجة الشهيرة “سقط سهوًا”، أو أن الخطأ حصل نتيجة أن الاسم أوحى للموظف (المخلص والدؤوب) بأنه اسم فتاة وليس اسم شاب. وإبان إصدار الهويات الصفراء المطوية قبل الثمانينيات، كان من السهولة أن تأخذ هوية جديدة دون إجراءات ضياع الهوية السابقة، مقابل مبلغ بسيط، وقد تجد هويتك في الغسيل بعد عدة أيام، وتحملها كهوية احتياطية، في تلك الأيام التي كانت المخابرات لا تزال تتدرب في الأقبية، وفي معاهد الدول الأجنبية، التي تلقنها أصول معاملة المواطن كمشتبه به، أو كمجرم حتمي، حتى يثبت بأنه مخبر، أو منافق، أو يدفع الخوة للمعلم، على شكل هدايا وأعطيات بمناسبة وبغير مناسبة.
وكان موظفو النفوس يعقدون صفقات مهمة تتضمن تسجيل المكتومية، وهي حالة المواطنين غير المسجلين سابقًا في سجلات الدولة، لأن أهاليهم كانوا يخافون عليهم من خدمة الجيش المليئة بالذل وبالإهانة، وكان معظم هؤلاء من أبناء الأرياف البعيدة، أو من البدو الرحّل، أو بعض المواطنين الأكراد، الذين لا تعتبرهم الدوائر الرسمية إلا كدخلاء رغم أنهم يخدمون في الجيش، ويدفعون الضرائب، وهؤلاء كانوا صيدًا ثمينًا لمديريات النفوس، وخاصة الأغنياء منهم، الذين يتم تسجيلهم بين عشيّة وضحاها، متجاوزين حواجز الأمة العربية الواحدة، على بساط من أوراق الـ 500 ليرة، أو عبر هدايا الذهب.
في الثمانينيات، وبعد غياب واختفاء أكثر من 25 ألف شاب في مجازر حماة وحلب وجسر الشغور، حين انتصر (الأب القائد) حافظ الأسد، وأخوه نائب القائد الدكتور رفعت الأسد، وتغولت أجهزة المخابرات، وأطلقت يدها في البلاد، وعلى رقاب الناس، استفاد موظفو النفوس من ذلك النصر التاريخي للقائد التاريخي، وصاروا يبيعون شهادة الوفاة بعشرة آلاف ليرة سورية، لأهالي المعتقلين الذين تمت تصفيتهم على يد رفعت الأسد، أو علي دوبا، أو مصطفى طلاس، والمحاكم الميدانية، ومحكمة أمن الدولة، أو ما تيسر من أعوان وأدوات “الأب القائد”، وأجهزة السلخ والذبح التي تعمل في خدمته، فالأهالي يقطعون الشك باليقين ويقيمون العزاء بشكل سري، والنساء المنتظرات أزواجهن، الذين كانوا في ضيافة آل الأسد، ومخابراتهم، يستطعن أن يبدأن حياة جديدة بعد سنوات الانتظار الطويلة لعودة الغائبين الذين تمت تصفيتهم.
بطلب خارجي من الدول الغربية ومن الأمم المتحدة، لا أحد يعرف سببه، تمت أتمتة السجل المدني في سوريا، وصارت الرشاوى هزيلة بالنسبة للموظفين الصغار، الذين لم يعودوا إلا أدوات إدخال للمعلومات في الشبكة الإلكترونية، وصارت أجهزة المخابرات هي التي تستثمر حصرًا في حقل السجل المدني، أسوة بالحقول الأخرى التي تمتلكها عائلة الأسد، وتضعها في أيد أمينة مع البترول، ومع أموال البنك المركزي، والتي حصل أن استعارها رفعت الأسد في الثمانينيات، وحملها معه، وهو يترك البلد من أجل أن يعمل مستثمرًا في فرنسا، وإسبانيا، وبريطانيا، وتسبب بإفلاس دولة أخيه حافظ الأسد في الثمانينيات، إذ ارتفع الدولار والذهب في 1987 إلى خمسة أضعاف قيمتهما مقابل الليرة حينها.
بعد هذه الأتمتة صارت قوائم الإيرانيين تتوارد في السجلات الإلكترونية الرسمية، ويتم تطويبهم كمواطنين سوريين بعد الحلف المقدس الذي عقده حافظ الأسد مع الخميني منذ بداية الثمانينيات، ورصّعه أدونيس بقصائده السائلة التي تخلط الحداثة، بالتصوف، بالنفاق، والارتزاق، وبتبرير جرائم القتلة.
الحدث الأخير لدوائر السجل المدني، هو توزيع 80 اسمًا كل يوم على الأسر السورية التي تنتظر أبناءها المعتقلين، وتزوير أسباب موتهم في المعتقلات، فبدلًا من عبارة “الوفاة تحت التعذيب” يتم توزيع الأسباب على شكل خوارزمية إلكترونية عشوائية، تعطي لابنك سبب الوفاة بالجلطة، ولابن جارك الوفاة بمرض الكبد، أو القصور الكلوي، وهكذا دواليك، يقوم موظفو النفوس المحرومون من الأعطيات القديمة بتوزيع متقن للموت، ويقومون هذه الأيام بتسليم هذه الوثائق إلى الأهالي وذلك بدعوتهم عبر المخاتير لزيارة “مؤسسات الدولة” لاستلام وثيقة الموت المؤرخة بعد يومين، أو ربما سنة، بعد اعتقال الشاب، ولكنها لم تصل إلا بعد خمس سنوات، ودون أي دليل مادي يثبت هذه الوفيات، فالسجل المدني الإلكتروني لم يتمكن من استيعاب موت كل هذه الأسماء دفعة واحدة، خاصة وأن الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثقت اختفاء 118 ألف اسم في معتقلات النظام، ويرتفع الرقم إلى 215 ألفًا غير موثقين بشكل كامل، كما أوردت ذلك صحيفة عنب بلدي على لسان الشبكة.
خيرة شباب سوريا ورواد الثورة السلمية التي انطلقت في آذار 2011، يتم توزيع أسمائهم اليوم كمتوفين وفاة طبيعية، وهم في الحقيقة قد عانوا آلام التعذيب، وتمنوا الموت في أقبية المخابرات التي تتعامل مع شباب سوريا كخونة في أحسن الأحوال، أو كحيوانات، في الحالات العادية. لقد قتلوا بقلب بارد كل هذه الأعداد الهائلة من أبنائنا، ومن مبدعينا الذين وزعوا الورود على قوات الجيش مثل غياث مطر، ونبيل شربجي، وإسلام الدباس، وصوروا ثورة السوريين السلمية كنيراز سعيد، وغيرهم آلاف الشبان المجهولين الذين تم التقاطهم على الجواجز، وتمت تصفيتهم دون أن يعرف أحد أين هم وما مصيرهم.
الشبكة السورية لحقوق الإنسان أوضحت في آخر إحصائياتها، أن 812652 مواطنًا سوريًا اختفوا قسرًا لدى أجهزة النظام الأمنية، منذ آذار 2011 وحتى حزيران 2018، ولا يزال 215 ألفًا منهم في معتقلاته أو في سجلاته قيد الإصدار.
ويتم اليوم توزيع شهادات الوفاة مجانًا، وليس برشوة كما كان الأمر في الثمانينيات، أو في بداية الثورة، حين كان استلام هوية المعتقل الشهيد يكلف أهله مليون ليرة سورية، وهذا إنجاز روسي كبير.
النظام اليوم يحاول طي مرحلة المجازر الإيرانية التي أوشكت على الأفول، حيث كان الحقد الطائفي هو السائد في المعتقلات والسجون وعلى الحواجز ، أما اليوم في مرحلة المجازر الروسية فالقتل صار علنيًا بالقنابل، وبالصواريخ، وبالكيماوي، وهذا القتل محمي بالفيتو، وبالعطورات التي تبخها روسيا على نفسها عبر دعايات بطولة العالم لكرة القدم، فالقتل صار يثير الفخر لدى الروس، ولدى الشبيحة، ناهيك عن كونه مصدرًا من مصادر التعفيش، ومؤشرًا على تنامي قوة مثقفي السلطة الذين يتمنون الحصول على القنبلة النووية لإبادة كل من يعادي المجزرة المفتوحة، بعد أن تجاوزوا خجل القتل السري تحت التعذيب في أقبية المخابرات، التي أسسها حافظ الأسد لابنه المتعطش للدماء ولقفز المراحل.
مرحلة جديدة يبدؤها النظام ليرتاح، وكأنه عائد من رحلة سياحية، وليس من مجازر الموت التي هدرت دماء أبنائنا، ودمرت حياة السوريين جميعًا. النظام اليوم متعب ويريد أن يرتاح، وهو لن يجد هذه الراحة أبدًا ما دامت أم سورية واحدة لا تزال تنتظر ابنها، ولم تقنعها أوراق النفوس، بمصير ابنها، ولا بمصير من قتلوه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :