ضياء عودة | مراد عبد الجليل | نور عبد النور
تبدّل شكل سوريا بعد محادثات “أستانة” مع تبدل ميزان القوى الذي شهدته المحافظات، إذ تحول النظام السوري المدعوم من روسيا إلى قوة وحيدة تمسك بزمام الأمور العسكرية والسياسية، بعد أن كاد يفقد نفوذه الكامل لصالح المعارضة السورية في مراحل سابقة.
صُبغت المحادثات بـ “النفَس العسكري”، رغم إدراجها ضمن إطار التفاهمات والمحادثات السياسية الخاصة بالملف السوري، فالبنود التي تم الاتفاق عليها رسمت شكل الخريطة العسكرية على الأرض، وأضافت بعض القضايا السياسية كنوع من الإشارة إلى ضرورة دمجها بما يسمى المحادثات السياسية لسوريا، منها ما ارتبط بملف المعتقلين، الذي لا يزال معلقًا حتى اليوم.
طوال عامين ونصف، عُقدت تسع جولات من “أستانة”، تنوعت فيها شخصيات المعارضة التي شاركت في المحادثات، مع ثبات هيكل وفد النظام السوري، والدول الضامنة الثلاث (روسيا، إيران، تركيا)، التي تولت خوض المحادثات بشكل أساسي من خلال الاتفاق على البنود في كل بيان ختامي يصدر في نهاية الجولة، بعيدًا عن الأطراف المحلية التي التزمت بتنفيذ ما أملي فقط.
خطوط عريضة قدمتها الجولات التسع، ولعل البيان الختامي الذي خرجت منه المحادثات في نسختها الرابعة “أستانة4” كان النقطة الفارقة التي وسمت بها المحادثات، إذ أفضت إلى إنشاء أربع مناطق “تخفيف توتر” أو ما يسمى بـ “خفض تصعيد”، هي الغوطة الشرقية وإدلب والجنوب السوري وريف حمص الشمالي، والتي تعتبر المناطق الأبرز لسيطرة المعارضة.
خريطة سورية جديدة
اختلف المشهد بشكل كامل بعد “أستانة4”، وبدأت الخريطة العسكرية تنحسر لصالح قوات الأسد، التي بدأت بعمليات عسكرية تستهدف المناطق التي تم الاتفاق عليها، رغم التأكيد على وقف إطلاق نار شامل. وقابل ذلك جمود تام لجبهات فصائل المعارضة، وغياب المؤازرات التي شهدتها سوريا في السنوات الأولى للثورة السورية، ما دفع إلى الحديث والتفكير ببنود تم الاتفاق عليها تحت الطاولة لم تعرضها المعارضة، وسرب النظام جزءًا منها يتعلق بمحاربة “الإرهاب”، المتمثل بـ “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “الدولة الإسلامية”.
ويمكن التأكيد على إخفاء بعض البنود المتفق عليها من جانب المعارضة من خلال ما نشره “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية” حول شكل خريطة إدلب، وهو ما لم تعرضه المعارضة رسميًا، إذ قسم البيان الختامي لـ “أستانة 4” المحافظة إلى ثلاثة أجزاء، بينها الخاصرة الشرقية للمحافظة، والتي سيطرت عليها قوات الأسد بشكل كامل بعد انسحاب الفصائل دون قتال جدي وبفترة زمنية قصيرة.
ينفي العميد أحمد بري، رئيس وفد المعارضة إلى “أستانة” سابقًا، أن تكون الجولة الأخيرة قد أخفت أيًا من البنود التي وقعت عليها، ويقول لعنب بلدي، “لا يوجد اتفاق في أستانة على تسليم المناطق أو أن تخرج أي منطقة للمعارضة خارج الاتفاق”.
ويضيف أن اتفاق “تخفيف التوتر” طبق على أربع مناطق، لكنها خرجت عن النطاق، وكان أولها الجنوب السوري، إذ وقعت الفصائل العاملة فيه اتفاقًا تحت الطاولة خاصًا مع أمريكا والأردن وروسيا، بعيدًا عن “أستانة” والضامن التركي.
لم يقتصر الأمر على الجنوب، وبحسب العميد بري، كان للغوطة الشرقية سيناريو مشابه، إذ اتجه فصيل “جيش الإسلام” إلى العاصمة المصرية (القاهرة) وأبرم اتفاقًا، بعيدًا عما تم الاتفاق عليه في “أستانة” أيضًا، وتبعه ريف حمص الشمالي، الذي اتجه أيضًا إلى مصر عن طريق فصيل “لواء التوحيد” و”تيار الغد السوري”.
وحتى اليوم تبتعد معظم شخصيات المعارضة التي شاركت في مسار “أستانة” عن الخوض في تفاصيل البنود التي تم التوافق عليها.
أما بالنسبة لإدلب، فتواصلت عنب بلدي مع رئيس وفد المعارضة إلى “أستانة” حاليًا، أحمد طعمة، لكنه رفض التعليق على سؤال حول المدة الزمنية لاتفاقية “تخفيف التوتر” في المحافظة.
أستانة “بريء”.. الفصائل “متهمة”
عضو الهيئة السياسية للائتلاف السوري المعارض، ياسر الفرحان، اعتبر أن الطريق للوصول إلى النتائج الصحيحة يقضي بتحليل الواقع على الأرض ما قبل “أستانة”، والواقع السياسي أيضًا.
الفرحان أوضح، في حديث إلى عنب بلدي، أن فصائل معارضة خسرت العديد من المناطق قبل البدء بـ “أستانة”، بينها حمص القديمة في 2014، وبعد ذلك في القلمون وحي تشرين والزبداني ومضايا وقدسيا والهامة والتل وجيرود وقرى الساحل السوري، إلى جانب الخسارة الكبيرة في داريا بريف دمشق الغربي، في 8 من آب 2016، فضلًا عن المنطقة الشرقية بشكل كامل، التي تشكل المساحة الأكبر في سوريا، والتي ذهبت لسيطرة تنظيم “الدولة” والقوات الكردية بعد سيطرة فصائل “الجيش الحر” عليها مطلع الحراك المسلح.
وبحسب الفرحان، فإن المناطق التي سقطت سابقًا لا علاقة لها بـ “أستانة”، وخاصةً مدينة حلب التي احتوت كميات هائلة من المؤن والسلاح لدى المعارضة، لكن خلافات القيادات في ذلك الوقت والاقتتال البيني حولها لصالح النظام السوري.
“أستانة جاءت نتيجة وليست سببًا للأوضاع المذكورة”، يقول الفرحان، رافضًا أن يكون مسار “أستانة” السبب وراء سقوط مناطق المعارضة بيد النظام، ويربط ذلك بعدم التزام الأطراف (النظام السوري ومن ورائه روسيا وإيران) بالبنود المتفق عليها.
روسيا.. “المهندس” السياسي والعسكري لسوريا
تصدرت روسيا محادثات “أستانة“، وحاولت من خلالها “ضرب عصفورين بحجر واحد“، الأول على الأرض باستعادة أجزاء واسعة من مناطق المعارضة بعد تجميد جبهاتها، والثاني سياسي والذي تمكنت فيه من حرف الرؤية السياسية لسوريا عن مسار “جنيف” إلى “سوتشي”، كنقطة أخيرة أعطت صورة كاملة للأهداف التي كانت تقف وراءها روسيا منذ الجولة الأولى.
“الهندسة” التي قامت بها روسيا يمكن سحبها على الضامنين الآخرين، تركيا وإيران، فالأولى، ورغم تأكيدها على دعم المعارضة السورية، كان لها مساع أخرى من الخوض في المحادثات، إذ وجدت فاصلًا زمنيًا تمكنت من خلاله تحويل الثقل العسكري في الشمال لخدمة غاياتها على الحدود، فسيطرت على منطقة عفرين بشكل كامل، بالتزامن مع العمليات العسكرية التي كانت تدور في الغوطة الشرقية، وهو ما اعتبر حينها “عملية إلهاء” لفصائل الشمال عن فتح جبهات من شأنها التخفيف عن محيط العاصمة.
إيران أيضًا كانت لها مصالح في الخوض بالمحادثات، من خلال تثبيت دورها بالملف السوري إلى جانب الروس والأتراك، بعد التهديدات الأمريكية والإسرائيلية بضرورة انسحابها من جميع الأراضي السورية، فتمكنت من تثبيت نقاط مراقبة لها في محيط محافظة إدلب، وهو ما أكده “مركز المصالحة الروسي” مؤخرًا.
الوصول إلى سوتشي
مع اتضاح ملامح المآلات العسكرية في سوريا عقب سيطرة قوات النظام على الجنوب السوري، ينتهي دور محادثات أستانة، التي أديرت محاور جولاتها التسع بيد الفصائل العسكرية وروسيا إضافة إلى النظام والدول الضامنة.
وينتقل اليوم ما تبقى من ملفات “أستانة” إلى جولة جديدة جديدة من محادثات “سوتشي”، إذ قال نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي فيرشينين، الشهر الماضي، إن “سوتشي” سيعقد يومي 30 و31 من تموز الحالي، على أن يكون برنامجه بنفس المحادثات التي سارت عليها محادثات “أستانة”.
وأضاف فيرشينين، “عندما كنا في آخر لقاء لأستانة قررنا أن اللقاء المقبل سيجري في سوتشي في آخر يومين من تموز (…) هذا متفق عليه بالفعل”.
وستحافظ الدول الضامنة الثلاث لـ “أستانة” (روسيا وتركيا وإيران) على مواقعها ذاتها في “سوتشي”، وسيكون هناك مراقبون إلى جانب الأطراف السورية، ويتوقّع أن يتم الانتقال فيه إلى الحديث عن تفاصيل متعلّقة بالدستور السوري، ومشاورات الحل السياسي في سوريا، بعد “تجفيف الملف العسكري”.
من حلب إلى درعا
كيف خسرت المعارضة مناطقها؟
شهدت خريطة النفوذ في سوريا متغيرات كبيرة منذ أواخر عام 2016 وحتى تموز 2018، وصبّت بمعظمها في صالح النظام السوري، في وقت شهدت مناطق فصائل المعارضة انحسارًا واضحًا وبشكل كبير، حتى غدت المناطق التي تسيطر عليها محصورة في جيبين في الشمال السوري، أحدهما تحت الإدارة التركية والآخر لم يتكشف مصيره حتى الآن، وهو محافظة إدلب.
جاء هذا التغير مع بدء العمل بمسار “أستانة” من قبل الدول الضامنة (تركيا، روسيا، إيران) مطلع عام 2017، أي عقب بدء العمليات العسكرية في الأحياء الشرقية لمدينة حلب، والتي انتهت بسيطرة النظام السوري بشكل كامل عليها، ما اعتبر بداية الانتكاسات و”سقوط” مناطق المعارضة لصالح الأسد وحلفائه.
الحديث عن المسار ارتبط باتفاق سُمّي “تخفيف التوتر”، وقضى بوقف إطلاق النار بين الفصائل المتنازعة على الأرض (المعارضة، النظام)، بعيدًا عن الفصائل الجهادية كـ “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، وهي نقطة كان لها دور كبير في استمرار معارك قوات الأسد ضد مناطق المعارضة، بذريعة القضاء على “الإرهاب”.
حلب قبل “أستانة”
شكل سقوط مدينة حلب بيد قوات الأسد والميليشيات المساندة لها ضربة كبيرة للمعارضة السورية، باعتبارها الجبهة الأبرز لها في الشمال السوري.
وكانت السيطرة عليها قبيل بدء الجولة الأولى من “أستانة” في أثناء توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أنقرة، كانون الأول 2016، ليتبعها محيط العاصمة دمشق والمنطقة الوسطى وصولًا إلى الجنوب السوري، الذي يتصدر المشهد السوري حاليًا.
وشهدت الأحياء الشرقية للمدينة سياسة مرسومة، بدأت بفرض الحصار الكامل ورافقها تجويع ونقص للمواد الأساسية اللازمة للمدنيين، واستهداف البنى التحتية والمشافي وصولًا إلى تضييق المساحة الجغرافية.
تغيرت خريطة السيطرة بعد “سقوط” حلب، منتصف كانون الأول 2016، وخسرت فصائل المعارضة مساحات واسعة من نفوذها في سوريا لصالح قوات الأسد، خاصةً في ريف دمشق الغربي والمنطقة الوسطى في مدينة حمص وما حولها.
الريف الغربي لدمشق
وادي بردى ومنطقة عين الفيجة كانتا الهدف الأول بعد حلب، حيث بدأت قوات الأسد معركة في المنطقة بالتزامن مع خروج “الباصات الخضراء” من حلب الشرقية، واستطاعت بعد تصعيد جوي استمر حوالي شهر السيطرة الكاملة على المنطقة ضمن اتفاق “تهجير” لمقاتليها وعائلاتهم إلى الشمال السوري.
كما طبق النظام سياسته العسكرية نفسها لإفراغ غربي دمشق في مدينتي مضايا والزبداني والتي خسرتها المعارضة ضمن “اتفاق المدن الخمس” الذي كان لـ “هيئة تحرير الشام” و”حركة أحرار الشام” الدور الأبرز في تنفيذه.
وتزامنت هذه التطورات مع الجولة الأولى من “أستانة”، والتحضير للانتقال إلى الجولة الثانية، التي عقدت في شباط عام 2017، رغم إصرار وفد المعارضة على تجميد المعارك في المنطقة.
الوعر الحمصي
لم تمض أشهر على سقوط مدن وبلدات ريف دمشق الغربي حتى طال حي الوعر في مدينة حمص المصير ذاته، إذ صعدت قوات الأسد من قصفها الجوي على الحي، وأجبرت فصائل المنطقة على القبول باتفاق الخروج إلى ريف حلب الشمالي ومحافظة إدلب، نيسان الماضي.
وفي هذه الفترة دارت الجولة الثالثة من “أستانة”، آذار 2017، التي اختتمت بتشكيل لجنة ثلاثية لمراقبة الهدنة من الأطراف الضامنة وهي روسيا وتركيا وإيران.
عقب الخروج من حي الوعر، اتجهت قوات الأسد إلى الريف الشرقي للعاصمة دمشق، وطبقت سيناريو حلب في حيي القابون وبرزة “الاستراتيجيين” بالسيطرة عليهما ضمن اتفاق خروج إلى الشمال السوري أيضًا، لتقطع آخر خطوط إمداد المقاتلين والمدنيين في الغوطة الشرقية، أيار 2017.
عرسال وحدود لبنان
اتجهت البوصلة إلى الريف الغربي لدمشق، في آب 2017، حيث سيطرت قوات الأسد وميليشيا “حزب الله اللبناني” عليه بشكل كامل، وأعلنت الشريط الحدودي بين سوريا ولبنان تحت سيطرتها، بعد إجبار مقاتلي المعارضة في منطقة عرسال على الخروج إلى القلمون الشرقي والشمال السوري.
وفي ذات الفترة التي سيطرت فيها قوات الأسد على القلمون الغربي فشلت الجولة الخامسة من “أستانة”، إذ لم تنجح الدول الضامنة في التوصل إلى اتفاق بشأن تفاصيل وحدود نطاق مناطق “تخفيف التوتر”.
خاصرة إدلب الشرقية
إلى محافظة إدلب في الشمال السوري، التي شهدت تغيرات كبيرة في أواخر العام الماضي، بعد بدء عملية عسكرية من جانب قوات الأسد بدعم روسي في الريف الشرقي، وصولًا إلى الريف الجنوبي لحلب، إذ تمكنت من السيطرة على مساحات واسعة حتى مطار أبو الظهور العسكري، ثم أوقفت عملياتها العسكرية في المنطقة.
وجاءت هذه التطورات بعد الجلسة السادسة من “أستانة”، التي سربت بنودها، بتقسيم إدلب إلى ثلاث مناطق تدير إحداها روسيا بينما تسيطر تركيا على الثانية القريبة من حدودها.
وتعتبر الثالثة منزوعة السلاح، وهذا ما أكدته مصادر في قيادة “الجيش الحر” لعنب بلدي.
ووفق المصادر، فإن منطقة شرق سكة القطار، على خط حلب- دمشق، ستكون منزوعة السلاح وخالية من المسلحين والفصائل تحت الحماية الروسية، على أن تدار من طرف مجالس محلية، بينما تمتد المنطقة الثانية بين السكة والأوتوستراد، أما الثالثة فستخضع للنفوذ التركي.
غوطة دمشق وجنوبها
بعد ستة أشهر من قضم قوات الأسد لمساحات كبيرة في ريف إدلب الشرقي، انتقلت إلى العاصمة دمشق ومحيطها، وبدأت عملية عسكرية في شباط العام الحالي تمكنت فيها من السيطرة على مناطق سيطرة المعارضة في الغوطة الشرقية، أبرزها مدينة دوما التي خضعت سابقًا لسيطرة فصيل “جيش الإسلام” وحي جوبر وبلدات كفربطنا وسقبا وحمورية الخاضعة في وقت سابق لسيطرة فصيل “فيلق الرحمن”.
في الأيام الأولى من عام 2018، أعلنت الأركان الروسية أن المهمة الرئيسية لها تدمير “جبهة النصرة”، التي يوجد بعض مقاتليها في مناطق “تخفيف التوتر”، وعلى هذا الأساس سعت إلى تبرير حملتها على الغوطة التي انضمت إلى الاتفاق في تموز 2017، على الرغم من أن مقاتلي “النصرة” في الغوطة لم يكن عددهم يتجاوز 200 عنصر.
وتضمن الاتفاق فك الحصار عن الغوطة وإدخال المواد الأساسية، دون أي إعاقات أو ضرائب، بالإضافة إلى إطلاق سراح الموقوفين والمعتقلين من الأطراف المعنية بهذا الاتفاق، لكن أيًا من ذلك لم يحدث.
الفصائل العاملة في الغوطة اتجهت إلى اتفاقيات مغايرة لأستانة، فقد ذهب فصيل “جيش الإسلام” إلى الضامن المصري، بينما أبرم فصيل “فيلق الرحمن” اتفاقًا مع الجانب الروسي خلال المحادثات السياسية في جنيف.
وجاءت الهجمة العسكرية على غوطة دمشق الشرقية بعد انتهاء محادثات “أستانة 8”، والانتقال إلى المحادثات السياسية الخاصة بالملف السوري في مدينة سوتشي الروسية.
المعارك لم تقف عند الغوطة، بل امتدت إلى مناطق سيطرة المعارضة جنوب دمشق، وتمكنت قوات الأسد في أيار العام الحالي من السيطرة عليها بشكل كامل، بعد التوصل إلى اتفاق قضى بخروج المقاتلين غير الراغبين بالتسوية إلى الشمال السوري.
القلمون الشرقي
بالتزامن مع تأمين محيط العاصمة دمشق، اتجهت أنظار قوات الأسد إلى القلمون الشرقي الذي خضعت أجزاء منه إلى سيطرة المعارضة، منذ الأحداث الأولى للثورة السورية.
وفي نيسان 2018، أعلنت قوات الأسد السيطرة الكاملة عليه بعد فرض اتفاق على الفصائل فيه، قضى بتسليم السلاح الثقيل والمتوسط والخروج إلى ريف حلب ومحافظة إدلب.
وجاء الاتفاق بعد معارك استمرت لأيام، تمكنت فيها قوات الأسد من السيطرة على مدينة الرحيبة والتقدم سعيًا لتقسيم المنطقة إلى جيوب، كخطوة للاستفراد فيها كل على حدة.
ريف حمص الشمالي
شهدت جبهات الريف الشمالي لحمص منذ دخوله في اتفاقية “تخفيف التوتر” المتفق عليها في “أستانة”، آب 2017، هدوءًا تامًا بين قوات الأسد وفصائل المعارضة، والتي لم تتحرك بأي عمل عسكري للتخفيف عن بقية الجبهات، وخاصة الغوطة الشرقية، الأمر الذي ربطه مراقبون ببنود الاتفاقية الموقعة في “أستانة”.
وبعد أن أغلقت قوات الأسد ملف مناطق المعارضة في محيط العاصمة انتقلت إليه بعملية عسكرية وقصف جوي، أفضى إلى التوصل لاتفاق قضى بخروج من لا يرغب بالتسوية إلى الشمال السوري، وتسليم السلاح الخفيف والثقيل.
وفي 16 من أيار 2018، أعلن النظام السوري السيطرة الكاملة على ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي، بعد خروج آخر دفعة من أهالي المنطقة إلى إدلب بموجب اتفاق التهجير الذي فرضته روسيا.
ونشرت القيادة العامة لقوات الأسد بيانًا حينها قالت فيه إنها أكملت السيطرة على 1200 كيلومتر مربع من ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي، مضيفةً أن عدد القرى والبلدات التي عادت إلى سيطرتها بلغ 65 بلدة وقرية.
وكما هو الحال بالنسبة للغوطة الشرقية، اتجهت الفصائل العاملة في ريف حمص وأبرزها “جيش التوحيد” إلى الضامن المصري، ودخلت في اتفاق جديد أفضى إلى دخول قوات الأسد إليه.
الجنوب السوري
الجبهة الأبرز للمعارضة السورية لم تكن بمنأى عن سابقاتها، وعلى الرغم من الهدوء الذي شهدته منذ قرابة عام، كانت على لائحة المناطق التي تنوي قوات الأسد استعادتها بعد فقدانها في مطلع أحداث الثورة السورية.
في حزيران الماضي بدأت قوات الأسد هجومًا على محافظة درعا، تمكنت فيه من السيطرة على مساحات كبيرة، بدءًا من الريف الشرقي حتى الريف الغربي، الذي دخلته قوات الأسد باتفاقيات مصالحة مع الشخصيات العسكرية والمدنية والمسؤولة عنه.
وتدخل مناطق المعارضة في درعا حاليًا أيامها الأخيرة، بعد انحسارها بشكل كبير لصالح النظام السوري، الذي اتبع أسلوبًا في دخولها اعتمد على كسب الحاضنة الشعبية، كورقة أساسية وفرت عليه تبعات العمل العسكري، كالأسلوب المتبع في الجبهات الأخرى.
وكان الجنوب دخل ضمن اتفاق “تخفيف التوتر” الموقع بين روسيا وأمريكا والأردن، في تموز 2017، لكن رغم ذلك فإن تفاصيل كثيرة حول آليات تطبيق “التهدئة” فيه لم تعرف حتى اليوم.
“أستانة” تحوّل تركيا من داعم إلى وسيط
نصبت تركيا نفسها بزعامة الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، خلال سنوات الثورة الخمس الأولى، مدافعًا عن الثورة ضد النظام السوري وداعمًا لفصائل المعارضة، وسط تصريحات بأنها لن تسمح بمجازر جديدة على غرار مجازر الثمانينيات في حماة.
لكن الموقف التركي بدأ يتحول من الداعم إلى الوسيط، خاصة بعد تقارب أنقرة وموسكو نتيجة مصالح الطرفين في سوريا، فروسيا تريد مساعدة تركيا في إقناع فصائل المعارضة لإيقاف إطلاق النار وتحريك المفاوضات، في حين بحثت تركيا عن أمنها القومي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” و”وحدات حماية الشعب” (الكردية)، فضلًا عن أنها لا تملك القدرة على مواجهة روسيا في سوريا سياسيًا وعسكريًا.
تغيُّر الموقف التركي بدا واضحًا في معركة الأحياء الشرقية في حلب التي سيطرت عليها قوات الأسد في أواخر 2016، عندما تحولت من داعم إلى وسيط لإجلاء المدنيين والتوصل مع المقاتلين إلى اتفاق يقضي بالخروج من المنطقة وتسليمها لروسيا والنظام، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 23 من كانون الأول 2016، بأن “عملية تحرير حلب جرت وفقًا لتوجيهات بوتين، وبالتعاون الوثيق مع الزملاء من تركيا وإيران”.
في مضمار أستانة
بعد سقوط أحياء حلب الشرقية، دخلت تركيا في مضمار محادثات أستانة وشاركت في جميع الجولات بصفة دولة ضامنة لفصائل المعارضة لوقف إطلاق النار إلى جانب إيران وروسيا.
وكانت تركيا بالفعل ضابطًا لفصائل المعارضة، إذ سكنت جبهات القتال في مختلف المناطق وخاصة في إدلب وريفي حماة وحلب، لكنها في الوقت نفسه اكتفت بالتصريحات السياسية من قبل مسؤوليها عن خروقات النظام السوري وروسيا في مناطق الغوطة وريف حمص وإدلب المشمولة في اتفاقيات أستانة.
في الغوطة الشرقية، لم يكن الموقف التركي أفضل حالًا من أحياء حلب، إذ اكتفى أردوغان بانتقاد العملية العسكرية التي شنها النظام السوري بمساندة الطيران الروسي على مدن وبلدات الغوطة، والتي أدت في نهاية المطاف إلى السيطرة عليها في نيسان 2018.
انتقلت الغوطة إلى يد النظام دون تحرك تركي، سوى انتقادات وتصريحات من قبل وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، بأن قصف المدن وبلدات الغوطة الشرقية يناقض اتفاق “أستانة”، في حين اكتفى أردوغان بانتقاد المجتمع الدولي إزاء ما يحصل في المنطقة وقصفها بالبراميل المتفجرة من قبل النظام، دون توجيه الانتقاد إلى روسيا.
“حزن وقلق”
عقب الغوطة، توجهت روسيا والنظام إلى ريف حمص الشمالي، وطلبت تركيا من روسيا على لسان المتحدث باسم الرئاسة، إبراهيم كالن، في نيسان الماضي، “عدم تكرار ما حدث في الغوطة سواء في ريف حمص الشمالي أو في إدلب”، لكن السيناريو تكرر في ريف حمص وغادرت الفصائل إلى الشمال في أيار الماضي، وسط صمت من أنقرة.
“إدانة وقلق وحزن”، عبارات متكررة أطلقها مسؤولون أتراك بعد تعرض كل منطقة لهجوم من قبل قوات الأسد، وآخرها أحياء درعا، عندما عبر الناطق باسم الخارجية التركية، حامي أقصوي، في 29 من حزيران الماضي، عن “حزنه العميق وقلقه الشديد”، حيال تصاعد الهجمات على درعا والقنيطرة، معربًا عن شعور دولته “بحزن وقلق كبيرين إزاء ما يحصل”، وأدان “بشدة الهجمات اللاإنسانية، التي تقوض الجهود المبذولة في أستانة وجنيف للحد من العنف في المنطقة، وإيجاد حل سياسي للأزمة”.
ولم يبق أمام تركيا سوى إدلب، التي نشرت فيها 12 نقطة مراقبة ضمن اتفاق أستانة، تبعها تهديدات من قبل وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بانتهاء العملية السياسية مع إيران وروسيا في أستانة في حال شن هجوم على إدلب.
وقال أوغلو في مقابلة مع قناة “CNN Turk”، في 21 من حزيران، “لدينا 12 نقطة مراقبة في مدينة إدلب، وقلنا لروسيا وإيران إن شن أي هجوم على إدلب ينهي المفاوضات السياسية، ويدخلنا في حرب”.
مسار تفاوضي غيّر شكل سوريا في عام ونصف