الرقة وفقدان المسار

  • 2018/07/15
  • 12:20 ص

إبراهيم العلوش

ما إن انتهى الخبراء الأمريكيون من دراسة آثار قنابلهم وصواريخهم على أهالي الرقة، وعلى أبنيتها، حتى أعلنوا عن نيتهم الانسحاب من الرقة، فبعد أن درسوا كل نتائج القصف، وما أحدثته القنابل الذكية في الأسقف والجدران التي تهاوت بسرعات مختلفة فوق ساكنيها، وعلى ملاجئها التي احتمى بها من تبقى من أهل الرقة، وبعد أن عبروا عن رضاهم عن نسبة الدمار الهائلة، بدأوا بالتذمر من المكان، وصاروا يعرضونه على البازار الدولي المهتم باستكمال تدمير سوريا.

ترك الشهداء مدفونين تحت أنقاض بيوتهم، أو في مقابر جماعية، كان قد استحدثها تنظيم داعش لضحاياه، والذين كان يتلذذ بقتلهم، لأنهم لم يؤمنوا بنبوة البغدادي. ورغم ترحيل أكثر من مليون متر مكعب من الأنقاض التي خلفتها الصواريخ، والقنابل الأمريكية، من أجساد الرقيين، ومن أبنيتهم التي قضوا العمر في إنشائها، فإن أعدادًا كبيرة من جثث الشهداء لا تزال ضائعة بين الأنقاض المتراكمة، وبين الأنقاض المرحّلة، ناهيك عن سوء الأوضاع الناتج عن تدمير الخدمات كالكهرباء، والماء، والصرف الصحي، وعدم وجود المدارس والمستشفيات. وكان نظام الأسد هو من بدأ التدمير لتعقبه داعش، ومن ثم الأمريكيون الذين حولوا المدينة إلى خربة فوق رؤوس أهلها.

الدمار الآخر الذي حل بالرقة هو استيلاء ميليشيات البي كي كي على إدارة الرقة ورفعها لشعاراتها وصورها في أرجاء المدينة، وفرضها الولاء على المدنيين لعبد الله أوجلان، بعدما كان النظام يفرض الولاء لحافظ الأسد، ولابنه بشار، اللذين أسهما بتخريب المدينة، واستجرار داعش لمعاونة شبيحتهم في استكمال الدمار مع الأمريكيين.

يكرر الأمريكيون بين الفينة والأخرى نيتهم تسليم الرقة للنظام ولشبيحته، إيذانًا بدورة تخريب جديدة، واعتقالات لأبناء الرقة ولناشطيها، خاصة وأن قسد تعلن عبر قادة ميليشاتها أنها تقوم بجولات تفاوضية مع النظام في الحسكة، وفي الطبقة، وربما في دمشق، أو في الرقة نفسها، لتضمن شروطًا تخص مخططاتها في شمال شرقي سوريا، وما اعتقال عناصر من لواء ثوار الرقة إلا تمهيد لعودة محتملة للنظام إلى المدينة.

وبعد حوالي سنة من حكم الرقة، لم تنجح سلطات الأمر الواقع، حتى اليوم، بإحياء العملية التعليمية، وهذا خطر كبير سيهدد مستقبل المدينة وأهلها، فالأطفال والفتيان الذين غسلت أدمغتهم داعش، متروكون لمصير مجهول، وقد يكونون نواة لصفحة عنف جديدة.

كما لم تفلح هذه السلطات بإعادة الحد الأدنى من الخدمات والنظافة، فالجرذان والحشرات احتلت المدينة ونشرت الأوبئة فيها. والأمريكيون دفعوا ملايين الدولارات على صواريخ التدمير، وهم اليوم يتذمرون أو يشكون من تكلفة بناء جسر أو مدرسة كانت صواريخهم قد دمرتها، وبتكلفة قد تزيد عدة مرات على ثمن إعادة بنائها، أو تكلفة القيام بصيانتها لجعلها تقوم بالخدمة المؤقتة على الأقل.

بعد خذلان الأمريكيين لثوار درعا وتهجير أكثر من 300 ألف من الأهالي من هناك، تنتاب الرقة اليوم موجة من التخبط، وعدم الوضوح، ناهيك عن عدم الثقة الذي يجعل قسد والأمريكيين ما هم إلا عابري مرحلة، تنتهي بتسليم الناس للمجازر القادمة على أيدي شبيحة النظام، والفصائل الإيرانية الطائفية التي تبتكر شتى أنواع مبررات الانتقام من الناس بحجة أنهم دواعش، ما داموا لا يرضخون للاستبداد الأسدي، ولا للميليشيات الإيرانية التي بدأت بحملات التبشير المذهبية في ريف حلب.

وقد حولت الميليشيات الكثير من المدن، والقرى، إلى الولاء الإيراني، المتمثل بولاية الفقيه، وذلك تحت تهديد الاعتقال والتجنيد الإجباري، واستغلال ظروف الحرب القاسية التي دفعت الكثير من الناس إلى الفقر المدقع، وهذا هو نفس الحال مع أجزاء كبيرة من ريف دير الزور، الواقع شرق الرقة، مما يجعل الرقة جزيرة قيد الطوفان الإيراني، وما نواف البشير، وتركي البو حمد، إلا مثالان من الأمثلة الكثيرة التي تصنعها إيران، وتضمن ولاءها.

قادة عشائر يهيئون أنفسهم لولائم النظام، وأعطيات الإيرانيين القادمة، وقادة آخرون يبكون من أجل أوجلان، وإطلاق سراحه، مثلما كانوا يبكون على باسل الأسد، وعلى حافظ الأسد، ولم يكونوا يصدقون بأن الملائكة قد تجرّأت على أخذ روح الأب القائد حينها.

وسط هذا الاضطراب تتداول وكالات الأنباء صورة لطائرة أمريكية تحلق فوق أنقاض الرقة، الأنقاض التي تحتوي أهلنا، والتي صرفنا العمر في بنائها استكمالًا لجهود أجدادنا الذين أسسوا الرقة قبل 150 سنة، وكانت أحلامهم كبيرة، بحيث صارت الرقة من أهم مدن الجزيرة السورية، ومن أكثرها مرونة وبعدًا عن التعصب، وصارت ذاكرة المدينة تنتعش، وآثارها تعاود الظهور، لتذكّر العالم بأنها كانت عاصمة هارون الرشيد. ولكن الطائرة الأمريكية غير عابئة بالبشر، ولا بعواطفهم، ولا بأحلامهم الصغيرة، لعلها تصوّر إنجازات القوى الجوية الأمريكية، ونجاعة أسلحتها، مثلما يفعل الروس فوق المدن السورية الأخرى. أما أهل الرقة ومصيرهم، فهم مثل كل السوريين، ومثل كل المدن السورية، التي تحولت إلى مجرد حقول للرمي، ولتجريب الأسلحة، واختبار نظريات محاربة الإرهاب والتدمير عن بعد.

الرقة لم تدفع كل هذه الأثمان لتستسلم لوحشية الإيرانيين، وللشبيحة القادمين، ولا لتستسلم لقطاع الطرق الجبلية، القادمين من جبال قنديل، والذين يتاجرون ببيع الإحدثيات، وبالشعارات الخلبية عن عظمة أوجلان.

الرقة مدينة سورية دفعت ثمنًا غاليًا من أجل الحرية، ولن ترضى إلا بالحرية، والتسامح، والعدل، وهذا هو الضمان الأكيد من أجل ألا يتم إعادة تدمير هذه المدينة من جديد بعد عشرة أعوام.. أو حتى بعد 100 عام.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي