تطرق الثورة السورية قريبًا أبواب عامها الخامس، في مشروع استنزف من شعبها وأرضها ما لم تتمكن الإحصائيات من استيعابه ورصده، وما قد يلزم عشرات السنين من البناء والإصلاح على صعيد المجتمعات والعمران؛ خبرات قليلة وثورة “متروكة”، عوامل كافية ربما لتبديد آمال الشعب، وتحرير عزائم جديدة تختلف تمامًا عن تلك التي امتلكها مطلع الثورة.
جريدة عنب بلدي تستطلع آراء فئات مختلفة من الشعب السوري حول رؤيتهم لمشروع الثورة وفق صورته الأخيرة، وهل ما زالوا يؤمنون باستمرارها ووصولها إلى غايتها.
حرب إبادة
“فليعيدوا إليّ ولدي.. ولا أهتمّ بعدها بشيء” هكذا يقول أبو عمار، الرجل الخمسينيّ الذي اعتقلت قوات الأسد ولده عمّار عند الحدود السورية اللبنانية، حين قصدها للعمل بهدف المشاركة في إعالة أسرته البالغ عددها 7 أفراد، إذ تدهورت حالتهم المعيشية إثر نزوحهم عن مدينتهم دوما.
ويردف “بادئ الأمر كنت كأيّ سوريّ آخر، نزل إلى الشوارع وشارك في نشاطات الثورة السلمية، لكن ما إن عمد النظام إلى إلجائها للسلاح، لتبرير وحشيته في صدّها، اتخذت قراري بأن أنحوَ جانبًا، وأنأى بنفسي عنها”، مضيفًا “بعدها غابت المظاهر الثورية السلمية والتي كان بمقدور من يماثلني السنّ أن يشارك فيها”.
ويختم أبو عمار حديثه “لا أتصور أنها باتت ثورة؛ إنها حرب.. حرب إبادة، والخاسرُ الوحيد هو أنا وأنت يا صاحبي”.
الشعب السوري ترك وحيدًا
“لم أندم.. لكن أدركت أني تحمّست للأمر أكثر من اللازم” بذلك يختزل رائد، الشابّ الجامعيّ قصته مع الثورة.
رائد الذي ترك جامعته ليلتحق بصفوف الثوّار “تفاؤلًا بسقوط قريب للنظام”، يرسم له حاليًا مستقبلًا أفضل في التعليم.
وأوضح لعنب بلدي “عداوتي مع نظام الحكم قديمة.. لقد علقت أنظاري بنتائج ثورتي مصر وتونس كثيرًا، فتوسّمتُ في سوريا تكرار التجربة والتخلّص من هذا النظام للأبد.. سيما أنّ بعضًا من أفراد عائلتي اعتقل في الثمانينيات والتسعينيات، وبخروجهم عرفتُ أشياءً كثيرة مما دار معهم في السجون، وعن مراحل نشوء هذا النظام، وسجلّه الحافل بالوحشية ضدّ شعبه”.
“توقّعتُ أن يحتشد العالم كلّه معنا لاقتلاع هذا النظام، وأن ينهار من الأشهر الأولى للثورة” وفق رائد، الذي أكمل “بساطة الشعب السوري كانت تدفعه لتحسن الظن بكل الأطراف والجهات، لكنهم خيبوا ظنه جميعًا؛ لا صداقة في السياسة، إنها تقاطع مصالح فقط”.
ترك رائد جامعته، ويؤكد أنه لم يندم على ذلك، لكنه يعترف “تحمست للأمر أكثر مما يستحق”.
تفاؤل مبني على “عزم المرابطين”
بدوره يصف أبو سارية، الرئيس السابق للمجلس المحلي في مدينة حرستا، رؤيته نحو الثورة بأنه “متفائل.. والوضع يتجه نحو الأفضل”، ويبني نظرته على “آمال الثوار وعزائم المرابطين والأهالي في الغوطة الشرقية”.
و يتابع قائلًا “لا أنكرُ أنّنا مررنا بمراحل سابقة طفت أخطاؤنا فيها بصورة سيئة، تصارعنا فيها على إخراج بعضنا البعض من دائرة الانتماء للثورة عند أدنى خطأ، لكنّ الصفوف اليوم في اتّجاهها نحو الانتظام.. كثيرٌ من الأخطاء التي ارتكبناها سابقًا بتنا نتلافاها اليوم”.
“العزائمُ لا تزالُ قوية والصفوف تتماسك، وأفرادُ الفصائل بدأت تنزع نحو الوعي والتحسين الذاتي لأساليب المعيشة عبر الاختراع لمداراة النّقص والشحّ في ضروريات الحياة ولوازم الحرب”، وفق ما يقول أبو سارية.
ورغم أنه يؤكد على أن الثورة “تحرز تقدمًا”، إلا أنه يلفت إلى أن “الوقت ليس في مصلحتنا، كما أنه ليس في مصلحة أحد”.
الملعب السوري
الكاتب السوري محمد ديرانية ينقل وجهة نظره بالقول: “التاريخ لا يعيد نفسه فقط، وإنّما يستعرض أبشع صورة التُقطت فيه”، موضحًا “ثمانينيات القرن، أحداثُ اليوم، حربُ إفناء متبادلة، وأطراف كُبرى تتصارع على أرضنا بالنّيابة”.
ويعتقد أن سوريا “باتت اليوم محرقة يصرفُ العالم إليها أسوأ ألعابه، ويسبر مدى دقة إجراءاته ومعلوماته الاستخباراتية عن ظروف جزئيات حياة المجتمع المحيط بإسرائيل”.
ويدلّل ديرانية على نظرته بالقول “رأى العالم كلّه حصائد تغذية الصراع المذهبي بين الوسطين السنّي والشيعيّ، والذي حدا بحكومة إيران وحزب الله وجيش المهدي وغيرهم من الميليشيات الشيعية لأن يعتبروا الحرب الدائرة على أرض سوريا حربهم، وينطلقوا في حربهم من منطلق عقائدي، وليس تحالف سياسي”.
ويرفض العقل إلا أن يستحضر مشهد المؤسسات الدينية المتطرفة، وهي تزرع بذار التطرف في عقول الشباب عبر سنينَ طويلة، وفق الكاتب الذي يعتبر أنها نشأت “لتؤدي سياسة الحكومات، العاقدة للولاء لإحدى القطبين الغربيّين، دور السقاية والعناية بهذه البذور، ثم ليجني السوريّون ثمرتها مع ثورتهم”.
“لم تبدأ هذه الثورة باختيار من الشعب، وإنّما بدأت صدفة في مجتمع ساعدت أعرافُه وطبيعته العشائرية على تعقيد ومفاقمة الأزمة فيه أكثر فأكثر”، يحلّل ديرانية “ولمّا كانت ثورته قامت صدفة، فقد كانت كنتيجة طبيعيّة تفتقر إلى التخطيط والخبرات ومنظومات العمل الجماعي وجرَت كثير من الأحداث فيها مجرى التجربة أو سبر المجهول”.
وعن رؤيته المستقبلية للثورة قال ديرانية: “هذا الشعب أدمن الحرب”، صابغًا كلماته بصبغة دينية “نحن نخوض مرحلة عبور النهر، كثيرون سيشربون، وقلة لن يؤثر العطش عليهم.. هؤلاء سيفوزون”.
إكمال مسيرة الشهداء
بدأ إيمان أم عمر بنجاح الثورة ووصولها إلى غاياتها كبيرًا في البداية، لكنه فتر قليلًا بعد ركودها، وبعد استشهاد ولدها عادت روح الثورة أكبر من ذي قبل، إذ تقول “عاد إيماني بالثورة، بل تضاعف وأخذت القضية شيئًا من المنحى الشخصي”.
“ابني لم يذهب سدىً، وفعل ما ربيته عليه، وسأكمل عنه ما ربيته عليه”، كما تقول أم عمر مردفةً “الشهداء كثيرون، وأقل الوفاء أن نكمل ما بدأوه حتى النهاية.. نهايتنا أو نهاية النظام”.
ولئن توافقت قناعات ووجهات نظر السوريين، الذين استطلعت عنب بلدي آراءهم، تجاه مستقبل الثورة أو اختلفت، بيد أنهم جميعًا أكدوا على أن “هذا النضال وصل إلى مرحلة الّلاعودة، وأنه لم يعد هناك شيء ليخسره أكثر مما خسره”.
لا ينكر المحللون السياسيون أن الثورة السورية دُفعت إلى حمل السلاح والتخلي عن السلمية، لتجد عددٌ من دول العالم ثغرة وفوضى داخلية، تصرف عبرها الغلاة عن أراضيها إلى “محرقة” وتتخلص منهم، الأمر الذي استثمره نظام الأسد جيدًا في المحافل الدولية، واصفًا الثورة بأنها “مجموعات إرهابية تخريبية” لا أكثر، فهل يستطيع صوت الثورة أن يعلو مرة أخرى؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :