سلسلة يكتبها منصور العمري
في “المجتمعات الخالية من العدالة، والتي يسودها الفقر والجهل، وحيث تشعر أي طبقة في المجتمع بأنها ضحية لقمع وسرقة وحط من شأنها، لن يكون هناك أي شخص من طبقة أخرى أو ممتلكات، آمنة في هذا المجتمع”، هكذا يقول فريدريك دوغلاس، وهو سياسي ومناضل إفريقي أمريكي.
مع جهود بعض السوريين وغيرهم خارج سوريا لتحقيق العدالة في سوريا، لا بد من إبقاء جميع السوريين )أصحاب الشأن( على علم مباشر بالتطورات الحاصلة، وتقديم جميع المعلومات الممكنة لهم، بما فيها ماهية المصطلحات المعتمدة دوليًا في القضاء والاتفاقيات الدولية، التي تشكل أساسًا لفهم العدالة وقدرة المطالبة بها ثم تحقيقها.
العدالة من أكثر المسائل أهمية بعد الكم الفظيع من الجرائم المرتكبة في سوريا على يد قوات نظام الأسد وحلفائه، وداعش وبقية الأطراف على الأرض السورية، لحماية السوريين أفرادًا ومجتمعات من الانتقام وأخذ الثأر باليد، ولتمهيد الطريق أمام بلد آمن يعم فيه السلام، ويمكنه المضي قدمًا في بناء الدولة والإنسان.
فما هي العدالة وكيف يمكن تحقيقها في سوريا في ظل الجرائم المهولة كمًا ونوعًا في سوريا؟
قبل تعريف العدالة، بداية يجب تحديد تسميات الجرائم وتعريفها تبعًا للمصطلحات المستخدمة في القضاء المحلي والدولي.
الإبادة الجماعية
يستخدم كثير من السوريين هذه التسمية للإشارة إلى منهج نظام الأسد في حربه ضد معارضيه من السوريين، وهو ما يتوافق مع الفهم الشعبي لما يشكل إبادة جماعية بأنه يميل إلى أن يكون أوسع من محتوى التعريف بموجب القانون الدولي.
قد يُستخدم تعبير “الإبادة” أو “الإبادة الجماعية” لوصف جرائم الاستهداف الجماعي، ولكن يبقى هذا الاستخدام في إطار اللغة العاطفية لا القانونية، وبالتالي لا يمكن اعتماده في المحاكم إلا إذا استوفى شروطًا محددة، سآتي على ذكرها لاحقًا.
ابتكر مصطلح “إبادة جماعية (جينوسايد)“، “Genocide” لأول مرة المحامي البولندي رافييل لمكين عام 1944 في كتابه “دور المحور أوروبا المحتلة”. يتألف المصطلح لغة من البادئة باللغة اليونانية “جينوس، genos”، أي عرق بشري أو قبيلة، واللاحقة “سايد، cide” التي تعني القتل، وبالتالي تصبح التسمية قتل العرق أو القبيلة. طوّر لمكين هذا المصطلح جزئيًا لتوصيف الأعمال النازية المتمثلة في القتل المنظم لليهود خلال المحرقة “الهولوكوست”، وأيضًا لتوصيف الحالات السابقة في التاريخ للأعمال التي تستهدف تدمير مجموعات معينة من الناس. قاد لمكين فيما بعد حملة دولية للاعتراف بـ “الإبادة الجماعية” وتصنيفها كجريمة دولية.
اعتُرف بالإبادة الجماعية لأول مرة كجريمة في “القانون الدولي” عام 1946 في الأمم المتحدة، واعتُبرت جريمة مستقلة في اتفاقية عام 1948 بشأن “منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”. صادقت 149 دولة على الاتفاقية (حتى كانون الثاني 2018). صرحت محكمة العدل الدولية بأن الاتفاقية تجسد المبادئ التي تشكل جزءًا من “القانون الدولي الإنساني العرفي”، وهذا يعني أنه سواء صادقت الدول على الاتفاقية أم لا، فإنها ملزمة قانونًا بمبدأ أن الإبادة الجماعية هي جريمة محظورة بموجب القانون الدولي. جرّمت دول كثيرة الإبادة الجماعية في قوانينها المحلية، لكن أخرى لم تفعل ذلك. يجب تجريم هذه الجريمة الكبرى في أي قوانين سورية.
تعريف الإبادة الجماعية
في “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، تعني الإبادة الجماعية أيًا من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
قتل أعضاء من الجماعة.
إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا.
فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
لا بد من توفر عنصر أساسي في الجريمة لتقبل قانونيًا، وهذا العنصر هو “النية”.
أحد شروط إثبات جريمة الإبادة الجماعية هو إثبات نية المجرم ووعيه لارتكابها، وهو السبب في أن بعض فقهاء القانون يجادلون بأن ما حدث في كمبوديا على يد الخمير الحمر ضد مجموعات بشرية محددة، لم يكن إبادة جماعية لعدم القدرة على إثبات النية، رغم ذلك، التصنيف الغالب هو أنها إبادة جماعية.
لا ينحصر الفعل الجرمي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بشكل مباشر، بل يُعتبر مجرمًا ويعاقب أيضًا كل من قام بالتالي:
ارتكاب الإبادة الجماعية، وعمومًا يكونون القادة المباشرين والعناصر المنفذين.
التآمر من أجل ارتكاب الإبادة الجماعي،. أي التخطيط والاقتراح وبقية الأفعال المرافقة التي يرتكبها عمومًا الرؤساء والزعماء وأصحاب القرار السياسي.
التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، عمومًا في الإعلام، والاجتماعات العامة.
محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.
الاشتراك في الإبادة الجماعية.
حسب التعريف القانوني لا يندرج ما فعله نظام الأسد في سوريا في إطار الإبادة الجماعية، رغم أنه ارتكب مجموعة كبيرة من الجرائم كمًا ونوعًا. وهذا لا ينقص من وحشية جرائمه، أو مسؤوليته القانونية وضرورة المحاسبة، ولكن يختلف فقط منهج مساعي التوثيق والمدخل القانوني في المحاكم.
بالمقابل، يمكن تصنيف ما فعله داعش بالإيزيديين في العراق على أنه إبادة جماعية لاستيفائه التعريف، إذ أعلن داعش صراحة استهدافه للإيزيديين جميعًا، بسبب دينهم )النية(، وبدأ بخطوات فعلية لتنفيذ الإبادة )الأفعال(، كالقتل وتصفية الرجال، وخطف الأطفال ونقلهم إلى مكان آخر، فاغتصب الإناث منهم، وجنّد الذكور وعرضهم لغسيل الدماغ.
جاء تعريف جريمة الإبادة الجماعية في المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية نتيجة لعملية تفاوض عكست حلًا وسطًا تم التوصل إليه بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 1948 وقت صياغة الاتفاقية. التعاريف بالطبع ليست مقدسة، ويمكن تغييرها ولكن فقط من المختصين وبالتوافق الدولي إن كانت في سياق اتفاقيات دولية، وعادة ما تتطلب وقتًا طويلًا نسبيًا.
الإبادة في اللغة العربية هي القضاء على الوجود والسحق الكامل والتغييب عن وجه الأرض والحياة، وهو ما فعله نظام الأسد تمامًا تجاه كل من عارضه. بالتالي الدافع وراء هذه الإبادة هو التوجه السياسي. حتى اليوم يمكننا القول قانونًا إنه لم تقع جريمة “إبادة جماعية” في سوريا، ولكن يمكن أن نسمي مجموعة الجرائم المنسقة والمنظمة التي ارتكبها نظام الأسد، وبنية ووعي كامل “إبادة سياسية”، وهي تسمية لغوية أو عاطفية وليست قانونية، حتى الآن على الأقل.
مراجع
الأمم المتحدة
اللجنة الدولية للصليب الأحمر