عندما يصير السهل والجبل شيئين
عهد مراد
عندما بدأت بكتابة شيء عما يحدث في درعا، لأقول إنه رأيي في الحدث، لم أستطع أن أعزل تفكيري عن حقيقة أنني ابن السويداء وأن الرأي في الحدث سيأخذ زاوية رؤياه من موضعي هذا.
ومن هذه الزاوية وجد السؤال مكانته، فالقتل والتهجير والذبح هو المنتظر من القتلة، لا شيء جديد، الجديد هو أن ترصد خطاب شارع ينكر التاريخ ويلوي عنق الحقيقة لصالح “ذريعة الآن” التي يستخدمها الماكرون.
الجديد أن سهل حوران صار اسمه درعا وأن جبله صار اسمه السويداء، وأن أهل حوران صاروا أبناء مجتمعين، والذي يجهله كثيرون أن محاولات تفتيت النسيج المجتمعي في حوران الكبرى لم تحدث الآن فحسب، بل يشهد التاريخ أن العثماني والفرنسي حاولوا جاهدين قطع الرابط المتين بين “الحورانين” (أهل السهل والجبل)، ولكن “الاحتلالين” تعثرا أمام أصالة الرابطة التي تجمع أبناء البلد.
كان من الواضح أن السيناريو ذاته سوف يتكرر، منطقة “موالية” تشكل حاضنة لجيش سيهجم على منطقة معارضة، وصواريخ وهاون تتساقط على الأولى بدعوى أنها سلاح أبناء الثانية، لتعطي حاضنة الجيش شرعية حتى يستمر في”الدفاع عنها” من مطلقي القذائف، ويتحول الشارع من حاضن للجيش، لمتطرف يريد الإبادة لمن صار خصمًا لتوه، لأن قذيفة ما سقطت هنا من مكان ما.
هذا السيناريو لم يعد خافيًا على أحد، ونجح في جزئية بسيطة، ولكنه أيقظ شعورًا قويًا عند عدد من أبناء السويداء ليتحركوا من أجل تذكر التاريخ وإحيائه بين الناس ليقفوا في وجه هجمة صناعة خطاب الكراهية، فبعد الاتهام لأبناء درعا (هكذا بالعموم) بأنهم يقصفون السويداء، جاء اتهام النازحين بأنهم لا يريدون معاشرة أبناء السويداء.
وهنا لا بد من عرض الرد على هذه الحجة الواهية التي تقول إن النازحين آثروا على ذلك التوجه جنوبًا وغربًا، ففي الحقيقة إن أحدًا منهم لم يرفض التوجه إلى السويداء، لكن إشاعتين انتشرتا بين النازحين أدتا إلى تغيير اتجاه نزوحهم: الأولى أن النظام سيعتقل العوائل الداخلة إلى السويداء بحجة أنهم ذوو المقاتلين (وبغض النظر إن كان للإشاعة أصل من الصحة أم لا فإن عاقلًا لن يثق بالنظام أبدًا)، والإشاعة الثانية، وهي حقيقة صريحة، بأن حواجز الميليشيات المهاجمة تجبر العابرين إلى السويداء على دفع مبالغ طائلة ليسمح لهم بالعبور، فكيف لهاربٍ من الحرب أن يهرب باتجاه هكذا احتمال؟
حقيقة، يشكل هذا الحدث طعنة كبيرة، وإذا أردنا التجرد من العواطف فإنه في حقيقته من أخطر الأحداث التي من شأنها أن تخلخل العلاقة بين “الحوارنة”، وتجاوزه يحتاج إلى جهود لا ينفع فيها مال إعادة إعمار ولا مال بناء دولة اقتصادية، لا شيء يرمم ما تهشم من أرواح وعلاقات صنعها تاريخ طويل، وعبث بها اليوم جهلة معتوهون. تدمرت بيوت وتشردت أسر واحترقت محاصيل ومات أطفال ونساء وشيب وشباب، لكل هذا قيمة كبيرة وهو في جوهره خسارة فادحة، ولكن زادت عليه كارثة خذلان الأهل لأهلهم، لتضعنا أمام تحدٍ قد يصنع من مستقبلنا حكاية رعب إذا استيقظت الأحقاد.
مفارقة مدهشة يكشفها الحدث، قبل معركة الجنوب كان يُصنَف الشارع المعارض على أنه من دعاة التقسيم، ويهلل الموالي لوحدة سوريا والحفاظ على نسيجها، أما في أثناء المعركة ظهر الخطاب المر، فصارت المفردات التي تعبر عن نصر النظام تدق مسمارًا في نعش السلم الأهلي، وراحت صفحات الموالين تتحدث عن “زوال درعا، درعا خلصت، ما ظل حدا بدرعا، لاتخلوا ولا واح…”، وكأن درعا هي جغرافيا قادمة من مجموعة شمسية أخرى، وتسكنها ثلة من الشياطين. وفي ذات الوقت كان المدني والمعارض والأخلاقي يهتفون بأن درعا “عرضنا وأهلنا”، فصار من يتهمون بأنهم دعاة التقسيم درعًا للسلم الأهلي، ومن هلل للوحدة أداة لتفتيت النسيج المجتمعي، وصارت هذه الأداة تصب جام غضبها على من يمتدح تاريخ العلاقات مع درعا، وصرت إذا أردت أن تدعو الشارع لأن يتذكر مكارم أهل درعا تخاف الأمن والجيش والاعتقال والتنكيل، لا بتهمة وهن عزيمة الأمة ولا الخيانة العظمى، بل بتهمة العمل على السلم الأهلي الذي إن حصل اتحد الناس وإن اتحدوا خسر الطغاة.
هي حقيقة يعيشها أبناء السويداء الآن، فيهتف بعضهم: “معًا نحو العمل على إعادة الذاكرة للناس بأن درعا هي دارنا وأهلها أهلنا”، ولكن لاحقة تتبع هذه العبارة، التي تدعو إلى السلم الأهلي، تجعل المرء يعرف أي أرض موحدة يريد النظام، لاحقة يستخدمها كل من ينوي أن يقول أن السويداء ودرعا بينهما الكثير المشترك: “اشتغلوا يا شباب بس بحذر أمني شديد”.
سوريا الموحدة بـ “شعبها المتجانس”، تضع أبناءها تحت تهديد صريح بتهمة جديدة، هي “السلم الأهلي”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :