جود مهباني – حمص
أخيرًا.. توقف الناس عن الركض، تنفس طلال الصعداء، واستطاع أن يميز الابتسامة الصفراء التي ارتسمت على وجوه الناس، عندما تيقنوا أنهم بخير.
انحنى طلال قليلًا واضعًا يديه فوق ركبتيه غير مصدق ما حدث ومع تنهيدة عميقة أطلقها غمغم مذهولًا «يا إلهي لقد أخطأتني أسطوانة الموت!»
لم يعلم بالضبط كم بقي على هذه الحالة وهو يحاول الخروج من حالة الصدمة وهول المفاجأة، فطلال (23 عامًا) متطوع في الهلال الأحمر، لم يخطر بباله أن يواجه بنفسه ما كان يسمعه عن تعرض الناس في حي الوعر المحاصر للقصف المستمر والأسطوانات الصاروخية في نفس يوم دخوله للحي، خصوصًا وأن الأجواء كانت تبشر بالهدوء وتشي بالاطمئنان بعد تناقل إشاعات وأقاويل كثيرة عن هدنة يتم توقيعها في دمشق تتضمن بشكل أساسي وقف الأعمال الحربية ودخول المساعدات للحي.
يتحدث طلال بشيء من الغرابة –التي لا تخلو من الطرافة- عن عملية التحول المفاجئ من حالة الأمن إلى حالة الاستنفار القصوى، فيعود بذاكرته قليلًا إلى مشهد ما قبل «زعقة» الأسطوانة كما يسمونها.
كان يلعب مع رفاقه في الحي طاولة النرد وحين أتى دوره في اللعب، يرمي حجر النرد فيحدث «قرقعةً» أقوى من المعتاد، لم ينتبه لمغزى قوة الصوت وهمّ بإكمال اللعب عندما فوجئ بانفضاض الناس من حوله، وبحركة آنية، ركضوا بشتى الاتجاهات بعيدًا عن طاولته التي بقي عليها وحيدًا لثانية وربما لأجزاء منها.
«فوجئت بنفسي أركض خلفهم فزعًا لكن دون أن أعي السبب، كل ما أعرفه أني شعرت بلهفة قوية للحياة لم أرد أن أموت»، يقول طلال.
ما شهده طلال ليس إلا حالة رعب واحدة من عشرات الحالات المشابهة التي حدثت خلال الأشهر الثلاث الماضية بلغت ذروتها فترة عيد الأضحى والشهر الذي رافقه (تشرين الأول)، فقد تعرض حي الوعر المحاصر في مدينة حمص لقصف ما يزيد عن 230 أسطوانة أدت إلى سقوط ما لا يقل عن 125 مدنيًا بينهم نساء وأطفال، فضلًا عمّا أسفرته من دمار للمنشآت والبيوت السكنية.
وإن كانت تلك التجربة الأولى لطلال، فإن هناك آلافًا من المدنيين في الحي يتعرضون لما أصبح يسمى بـ «لعبة الموت» هذه بشكل يومي أو شبه يومي، تحصد بعض الأرواح وتسبب الخوف والهلع لمن ينجو منها. «لقد قتلت الأسطوانة أعز أصدقائي»، يرثي مروان بحزن وتحسر صديقه فراس المعروف بخدماته وأعماله الخيّرة للناس.
يتحدث مروان (30 عامًا) بتأثر واضح عن مشاعر خوف جديدة باتت ترافقه خلال الثواني العشر منذ لحظة انطلاق الأسطوانة وحتى سقوطها المدمر، يحكي لنا عن تعرضه سابقًا لقذائف هاون نجا منها بأعجوبة أو رصاص شيلكا أدت في إحدى المرات إلى إصابة في كتفه، لكنه لم يكن يخاف في حينها كما أصبح عليه الحال الآن، فعند لحظة سماعه لـ «شهقة» الأسطوانة يمر برأسه شريط تجاربه السابقة مع شبح الموت ونجاته في اللحظات الأخيرة فيأمل أن تخطئه الأسطوانة هذه المرة أيضًا.
«التعرض للموت أو العطب بشكل متكرر بشع جدًا ويولد الخوف، لا يغيب عن بالي عندما مرت شظية بجوار ساقي وحفرت الحائط، لو أصابتها لكانت قد بُترت حتما»، يقول مروان.
ورغم ما تسببه هذه الأسطوانات الصاروخية من حالة فزع وهلع وإصابات بين صفوف المدنيين فإن مصادر حكومية لا تعترف أنها تستهدف المدنيين، وتقول إن العمليات العسكرية والصواريخ موجهة لقتل مسلحين أو إرهابيين داخل الحي، الأمر الذي استنكره أبو الوفا الحمصي، أحد الخبراء العسكريين في قوات المعارضة، وأضاف موضحًا «من المعروف أن الأسطوانة الصاروخية هي عبارة عن أسطوانة غاز أو «قاظان» يتم حشوها بمادة تي ان تي ويُركّب لها دافع صاروخي كي تطير لمسافات بعيدة، وعندما تنتهي قوة الدفع تهوي فجأة وتسقط، فهي وإن تماثلت مع الصاروخ الأرض-أرض كقوة تدميرية، إلا أن الصاروخ يصيب هدفه بشكل محقق تقريبًا بخلاف الأسطوانة التي تضرب بشكل عشوائي، فهي لا يمكن لها أن تصيب أهدافًا محددة بدقة».
يقلد الطفل جلال (9 أعوام) صوت الأسطوانة منذ لحظة انطلاقها وحتى دوي انفجارها بحرفية عالية، ويشرح عنها بأسلوبه البسيط والعفوي ويصفها بـ «السلاح الأعمى»، ويفاخر بأنه لا يهرب منها كغيره من الأطفال، بل فضوله يدفعه لتتبع صوتها ومشاهدة مكان سقوطها، «هي تلعب معنا لعبة أم عميش» يقول جلال مشبهًا إياها ببطل لعبة شعبية معروفة في المدينة تُلعب ضمن غرفة أو حيز مغلق، مهمة بطلها «معصوب العينين» عليه أن يمسك برفاقه بينما يلوذون بالفرار من أمامه.
ويحذر الأخصائي النفسي أحمد الشامي من الآثار السلبية الناشئة عن الضغط المستمر الذي يسببه العيش المزمن في محيط خطر وغير مستقر على مستقبل أجيال من الأطفال، الذين يولدون ويكبرون في مثل هذه الظروف الصعبة، «إنَّ استمرار حالة التأهب الفيزيولوجية يؤثر بشكل مباشر على صحة الطّفل الجسديّة كما النفسية بالإضافة إلى تأثيرها المدمّر على دماغ الطفل تكوينيًا ووظيفيًا فهي تجعل الدماغ منهمكًا بالاستجابات الفيزيولوجية الخاصة بحال الإنذار والتأهب لتفادي الأخطار والدفاع عن النفس، ويحصل ذلك على حساب تطوير الوظائف الدماغيّة الأساسيّة الأخرى التي يجب أن تتطوّر في هذه المرحلة مما يعيق العملية الطبيعيّة لنمو القشرة الدماغيّة، والتي من المفترض أنها تسمح له باكتساب اللغة والنطق والقدرات الأساسيّة التي تمهد لتعليم القراءة والرياضيات لاحقًا».
يذكر أن حي الوعر، غربي مدينة حمص، تسيطر عليه من الداخل قوات معارضة، وهو محاصر بالكامل منذ عامين من قبل قوات النظام، ويقطنه حوالي 200 ألف نسمة من المدنيين، وهو عرضة بشكل دائم لمختلف أنواع الأسلحة النارية من دبابات وصواريخ وقذائف هاون.
تصف مريم (26 عامًا) حال الوعر اليوم وتشبهها بـ «سجن كبير وسجّان» وكعقاب جماعي لأهل الحي يتسلى بهم ويفرض عليهم قرعة الحياة والموت بشكل متكرر، ويستمتع بردود الأفعال الخائفة وحالات الذعر التي تنتشر بين الأهالي لحظة سماع إنذار الموت ينطلق من شرارة الأسطوانة، «قد ينتهي الحال بأحدنا اليوم سعيدًا بأن القرعة أخطأته رغم أنه في حالة يُرثى لها لأنه سيكون مرغمًا على الخضوع لقرعة موت جديدة في اليوم الذي يليه».
رغم زوال حالة الخطر ومعاودة الناس لمشاغلهم الخاصة، يبقى طلال ساكنًا في مكانه يرقب الدخان المنبعث من مكان ليس ببعيد، يتساءل عن سبب تلك المشاعر المزعجة التي داهمته بعد شعوره بالسعادة كونه حظي بفرصة البقاء على قيد الحياة. يشيحُ بعينيه لبرهة وكأن الدخان المنبعث قد أرشده إلى ما يعجز عن التعبير عنه وفهمه، فينطق بعينين دامعتين: «أسوأ ما في الأمر أنه في اللحظة التي شعرتُ فيها بالغبطة والامتنان، كانت الأسطوانة في طريقها لقتل آخر أو آخرين، ببساطة كان يمكن للآخر أن يكون أنا».