حذام زهور عدي
في تراثنا الشعبي.. كانت الأمهات -وربما ما زلن- يوصين الأبناء أن يرددوا جملة “دستور يا حاضرين”، إذا سكبوا ماءً ساخنًا أو مغليًا على مصارف المياه، ظنًا بأن الجن يسكنون في تلك المصارف مع أبنائهم، فترديد تلك الجملة بصوت واضح ينبههم ويجنبهم أذى الماء المغلي، وبالتالي فإن الجن لن يسببوا أذى لمن يسكب الماء، وما أكثر ما رددت النساء البسيطات عبارة “يبدو أنك سكبت ماء مغليًا دون أن تقولي دستور”، لمن مرض ابنها أو أصيبت أسرتها بمصيبة ما.. لأن الجن ينتقمون ولا يتساهلون البتة مع من يؤذيهم!
وهكذا أمر الجان أبناءهم الذين تأذوا من سخونة الدماء السورية المُراقة في مصارفهم، أن يُقدِموا أشد الكوميديات سوادًا كدستور، انتقامًا من تلك الدماء.
من أغرب الغرائب ومن سخرية المساخر أن تضع روسيا، بالاتفاق مع تركيا وإيران، دستورًا لشعب ودولة أخرى لاعلاقة لهم بها إلا علاقة غلبة واحتلال، لم يُعترف به وفق مبادئ مجلس الأمن ومواثيق الأمم المتحدة بعد! ثم تأتي بممثل للأمم المتحدة ليستجلب ما يقترحونه هم أيضًا من أسماء، لا تمت إلى هذا الشعب إلا كما تمت صور الكراكوزات إلى البشر. والأغرب أن تصمت الدول العالمية ومؤسسات الأمم المتحدة التي تُخرق قوانينها وتُخالف مخالفة واضحة عن مثل هذا العمل.
ومن أفدح المساخر، أن يشابه من يحاول وضع دستور لسوريا تمامًا النظام الأسدي، في استهتاره بالقوانين الأممية وقرارات مجلس الأمن، إذ يعرف السوريون جيدًا أنه كلما واجه مواطن مسؤولًا بأن عمله مخالف للدستور أو القانون كان يُجيبه: أي قانون! انقعه واشرب ماءه.
الشعب السوري اليوم أمام المضحك المبكي.. من يخرق الدساتير مكلف بوضعها، من يحتقر القوانين ولا يعترف إلا بقانون الغاب والغلبة والقوة مكلف بوضع دستور لشعب لا علاقة له به، لا ببنيته الاجتماعية أو خلفيته الثقافية أو ما يحدث له من مآسٍ، وفوق ذلك يضرب عرض الحائط بقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة!
من نافل القول ذكر مواضع مخالفة من يتداعون اليوم لوضع دستور قرارات الأمم المتحدة لكثرة ما أشار السوريون إليها، ويكفي القول إنه لا يحق لدولة الاحتلال وضع دستور للشعب المحتل أرضه إلا إذا صدر عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع ومؤسسات الأمم المتحدة ما يُفيد الاعتراف بالاحتلال نفسه، لأن الدولة المحتلة عند ذاك تتحمل التبعات الاقتصادية والإنسانية لذلك الشعب وهو ما تتهرب منه روسيا والآخرون في سوريا.
وقد نص البند الرئيسي في القرار الأممي 2254 الخاص بالحالة السورية والذي خرج بتوافق دولي وإجماع مجلس الأمن، على وجوب التوصل إلى هيئة حكم انتقالي تؤسس لانتخابات حرة تفرز لجانًا دستورية من الحقوقيين وذوي الخبرة والوجوه السياسية تضع مشروع دستور يُعرض بعد ذلك للاستفتاء أو التصويت عليه مادة مادة في المجلس المنتخب، وقد يعرض على الشعب بعد ذلك للتصويت حتى يتم اعتماده.
وبصرف النظر عن مخالفة دي ميستورا، ومن ورائه الروس وغيرهم، للقرارات ذات الشأن الخاصة بالحالة السورية أو بما يشابهها، فإن الدعوة بحد ذاتها هي الوسيلة الفضلى التي وجدها المحتلون لتضييع الوقت ريثما يتفق الكبار والصغار على تقاسم الكعكة السورية، ويؤهل الأسد ليستمر في تهديم ما تبقى من الروح السورية المقاومة والتي ستحرر الوطن.
لقد اعتمدت السياسة الروسية في سوريا منذ البدء على مسألتين رئيسيتين: أولاهما حماية الأسد والحفاظ على ورقته لتحقيق طموحاتها العالمية جميعها، والثانية اعتماد الألاعيب السياسية المنوعة لتفتيت المعارضة السياسية والعسكرية وإنهاء أي شكل عسكري بالعنف المطلق بيد والمؤتمرات والوعود الخلبية باليد الأخرى، وقد استطاعت -إلى الآن- النجاح في خطتها تلك، وساعدها في ذلك تشرذم المعارضة وضعفها السياسي، وهكذا كانت خطة الأرض المحروقة بالقصف والحصار واقتلاع الناس من منازلهم وأراضيهم، تتوازى مع استقدام الوفود للمناورات السياسية بحجة الحوار مع من بيده أمر سوريا، ثم عقدوا المؤتمرات في موسكو وأستانة وسوتشي، وسموا منصات لعملائهم فرضوها على هيئة المفاوضات المعارضة فرضًا من خلال الوقائع الدبلوماسية والعسكرية، وجعلوا النظام الأسدي يعرقل أي مفاوضات جنيفية، أو تنفيذ أي قرار أممي حتى لو كان بوتين نفسه من صاغه أو وافق عليه، وطلبوا من دي ميستورا الحريص على استمرار مهمته، تحصيل تنازلات إثر أخرى من هيئة المفاوضات الأولى والثانية، غير عابئين بمخالفة قرارات الأمم المتحدة، التي ناوروا بإصرار بها وعليها، كموضوع السلات الثلاث التي أصبحت أربع، ومن يدري فقد تتفرع إلى عشر، وفق ما يتناسب والوقت الذي تحتاجه السياسة الروسية لترتيب أوضاعها وتحقيق أهدافها النهائية.
بعيدًا عن الظن بصدق وطنية بعض من سيستجيب للدعوة الدستورية هذه، أو تقدير وجهة نظرهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فمن يقبل هذه الدعوة يعرف كل المعرفة أن:
– النظام الأسدي لا يحترم أي دستور حتى لو وضعته ملائكة الأرض والسماء، وأن المشكلة السورية ليست مشكلة دستور، ومن ثار على النظام الأسدي لم يكن البتة من أهدافه وضع دستور جديد إنما كانت الأهداف واضحة: تغيير النظام بما يضمن القضاء على الفساد والاستبداد، وقد قدم الشعب السوري الثمن الأغلى لتحقيق ذلك.
– الاشتراك بوضع دستور أو الموافقة على الاقتراح الروسي لدستور سوري في حالة “احتلال أجنبي غير معترف به تحت الفصل السابع من قوانين مجلس الأمن والأمم المتحدة”، هو مخالفة واضحة للقوانين الأممية تضاف إلى جرائم الحرب. وعلى من يشترك بهذه المهزلة أن يُدرك دون مواربة أنه يرتكب جريمة حرب (ولو بشكل سياسي) تشابه جرائم الحرب التي يرتكبها المحتلون والنظام الأسدي.
– وعليه أن يتمسك بوجوب تشكيل هيئة حكم انتقالي تشرف فيما بعد على انتخابات تعين لجنة سورية لوضع دستور أو تعديله، وفق قرار مجلس الأمن 2254.
– ما يجري جزء من الألاعيب الروسية التي ينفذها دي ميستورا لكسب الوقت لا أكثر.
– فكرة إنقاذ ما يمكن إنقاذه أوصلت الثورة إلى تنازلات مميتة، ولم يبق ما يمكن إنقاذه.
– إن وقفة كرامة وعز مطلوبة اليوم من السوريين جميعًا، ليقولوا بصوت واحد للمحتلين: كفى لعبًا فينا.. يا جان القرن الواحد والعشرين دستورًا منكم دعوا الشعب السوري يكمل طريقه نحو الحياة الحرة الكريمة.