صفقة القرن
حذام زهور عدي
منذ مدة كثر الحديث عن صفقة القرن، واهتم الإعلام العربي والغربي بالحديث عنها، واتجه التحليل إلى القضية الفلسطينية، فمنهم من تفاءل بتنفيذ صفقة الدولتين، وبإنهاء الصراع العربي الفلسطيني- الإسرائيلي، والتوصل إلى معاهدات سلام نهائية، ومنهم من اعتبر إنهاء مرحلة الحرب الباردة والاتفاق العالمي على نظام جديد هو المقصود بصفقة القرن، التي ادّعى بعض الإعلام الأمريكي أنها ما سيميز إدارة الرئيس ترامب، وبات المتابعون والكتاب والمحللون السياسيون ينتظرون تلك الصفقة باهتمامٍ كبير.
لكنّ الرئيس ترامب، الذي يُحب الإثارة والمفاجآت، آثر أن تكون الصفقة موجهة لكوريا الشمالية، بعيدًا عن أي توقع مطروح إعلاميًا، وبخاصة بعد تبادل الأوصاف غير اللائقة بينه وبين الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وبعد التهديدات بأزرار إطلاق الصواريخ العابرة للقارات، والقادرة على إزالة كل بلد منهما بعد ثوانٍ من كبسة الزر، وبعد محاولات التحرش العسكري بكوريا الجنوبية واليابان وبالأرض الأمريكية، والمناورات الكورية الجنوبية- الأمريكية، بل مرت لحظات كانت البشرية تحبس الأنفاس خوفًا من حماقة الرئيس الكوري وعنتريات الرئيس الأمريكي.
وبغض النظر عن المفاوضات السرية، فقد وجد الرئيس الكوري أن عرضًا استثنائيًا قد يحصل عليه من خلال لقاء يبدو وديًا مع رئيس أمريكي ذي توجه مختلفٍ عن الرؤساء السابقين، الذين كانوا يعتبرون مجرد الحديث مع والده أو معه هو اعترافٌ بشرعيةٍ غير مرغوبٍ بها، وقبولٌ بنظام اشتُهر بالضرب بعرض الحائط حقوق الإنسان، وبالعنف المطلق، مدّعيًا الاعتماد على النظرية الماركسية نقيض النظام الإمبريالي الحر الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية.
وربما ساعد على اللقاء أمران: الأول التجربة الكوبية التي وصلت إلى منتهاها، وسلّم أخيرًا راؤول كاسترو بنوعٍ من النظام المنفتح اقتصاديًا مقابل الانغلاق الماركسي السابق، بالرغم من سقوط الاتحاد السوفييتي واختيار روسيا الجديدة لنوع من الليبرالية الاقتصادية. والثاني: الوضع الاقتصادي شديد الصعوبة على شعب كوريا الشمالية، والذي وصل لدرجة محاصرة الأسرة الحاكمة نفسها، هذا من الجهة الكورية، أما من الجهة الأمريكية فوجود رئيس همه الأول والأخير منطق الصفقات، يملك رؤية خاصة في ذلك مستمدة من تاريخه الشخصي، إذ لا تهمه المبادئ والقوانين الدولية بقدر ما يحسب حسابات الربح والخسارة بالدولار الواحد، وقد تباعد عمليًا –بسبب ذلك- مع أقرب الحلفاء له، أوروبا، واليوم كندا.
في المؤتمر الصحفي الذي عقده ترامب وكيم أون في سنغافورة، ظهرت تمامًا عناصر الصفقة، ومكاسب كلٍ منهما، وأهدافه منها، إذ يكفي الرئيس كيم أون أنه حقق:
– اعترافًا بشرعية نظامه من خلال اللقاء نفسه.
– ووعدًا بعدم محاولة الأمريكيين زعزعة استقراره، ما يعني بقاءه على كرسي الحكم إلى الأبد، كما يأمل أمثاله من الحكام، وعدم التعرض لأسلوبه في السلطة والحكم، وقد ظهر ذلك جليًا في قول ترامب، حول حرية الاختيار للكوريين بنوع القطارات التي يفضلونها، عندما عرض عليهم بعضًا من التقدم التقني الأمريكي، ومن نمط الحياة الأمريكية في الفيديو الذي عرضه الأمريكيون قبل اللقاء مباشرة، كرسالة للكوريين الشماليين مؤداها، أمامكم أمران: إما أن تختاروا الحياة الحديثة برفاهيتها وبعدها الإنساني أو السلاح النووي والصواريخ التي ستدمركم وتُحدث الويلات لكم، وبالطبع كان الفيديو الذي شاهده الكوريون الشماليون ورئيسهم يحوي على فيلم للخيار الثاني أيضًا.
– انفتاحًا اقتصاديًا يضمن الخبز على الأقل لشعبه.
– وخروجًا من العزلة الدولية. بالنسبة لكيم هذه قضايا مهمة جدًا، فما الذي سيضرُه التخلي عن النووي الذي يُحسب لاستعماله ألف حساب وحساب مقابل تحقيق تلك المكاسب؟
لقد حقق النووي الكوري أهدافه الحقيقية، فجلب الرئيس الأمريكي لمساومته، وجعل محيطه كله من كوريا الجنوبية إلى اليابان يتقبله، وسيرفع مستقبلًا العقوبات عنه، وما كان بالإمكان أن يحقق كل ذلك بدون امتلاكه للقوة النووية التي يستطيع في أي وقت أن يستعيدها في حال أخلفت الولايات المتحدة تعهداتها.
أما الرئيس ترامب، فقد ظهر بالمؤتمر الصحفي كرئيس للعالم، شديد الثقة بنفسه وبقدرته على عقد الصفقات، وقد توجه عمليًا إلى ساسة أوروبا، وكأنه يقول: لقد جئتكم بنهاية نووي كوريا الناجز الذي كنتم تخافون أن يسبب حربًا عالمية ثالثة، وهو الأهم من نووي إيران الذي لم يُنجز بعد، فدعوني أكمل المشوار مع إيران وسآتيكم بإنهاء محاولاتها النووية والصاروخية عاجلًا أم آجلًا.
كما ضمن نوعًا من الاستقرار في شرق آسيا، حيث الاستثمارات الأمريكية الهائلة التي تحتاج لمثل هذا الاستقرار.
ولم يخسر ترامب شيئًا، فهو لن يرفع العقوبات إلا بعد التأكد من دخول هيئة الطاقة العالمية للتفتيش على النشاطات النووية الكورية، ورفع تقارير تعكس تنفيذًا حقيقيًا للاتفاق.
ولن يسحب الجنود الأمريكيين من كوريا الجنوبية إلا بعد زمن يتأكد فيه من صعوبة العودة لتلك النشاطات في حال تخلي الرئيس كيم بنسبة 20%عنها، ويكفيه أنه أعطى الرئيس الكوري شيئين مقابل الاتفاق، قبول لقائه، وإيقاف المناورات مع كوريا الجنوبية كبادرة نوايا حسنة.
ومع أن ذكره لإيران جاء عرضًا كإجابة عن سؤال دون أن يتوسع فيه، إلا أنها دلَت على نقطتين: أولاهما كما يقول المثل العامي، “بحكي مع كنتي واسمعي يا جارة”، فكوريا الشمالية كانت أهم مصدر للخبرة النووية وللصواريخ البالستية وللسلاح الكيماوي، إلى إيران والنظام الأسدي. وثانيهما أنه مصمم على شروطه في موضوع الاتفاق النووي الإيراني ولن يلين أمام الضغوط الأوروبية، لكنه بالوقت نفسه أوحى من خلال لهجة التعليق بملاحظته لبدء التنازلات الإيرانية في هذا المجال، وكأن تصريحات الخامنئي بالموقف غير العدائي مع إسرائيل قد وصلته (وهذا تنازل إعلامي فقط، لأن إيران الخمينية لم تكن في يوم ما معادية حقيقة لإسرائيل وفضيحة إيران-غيت أكبر شاهد على ذلك)، هذا عدا التنازلات الأخرى السرية بشأن دعم الحوثيين والانسحاب من الجنوب السوري، وبكل تأكيد هناك أمور أخرى لا تزال طي الكتمان، مع أن لإيران شأنًا آخر وظروفًا مختلفة قليلًا أو كثيرًا.
بالرغم من أن الاتفاق المبدئي هذا لا يزال يحبو في خطواته الأولى، لكنه عمل مهم للسياسة الدولية كلها، فهو دلّل بوضوح على إمكانية حل أصعب المشكلات من خلال المفاوضات والمساومات بعيدًا عن شرور الحروب، كما فتح بابًا جديدًا في العلاقات الدولية، إذ لم تعد أي قيمة لقرارات الأمم المتحدة في حماية المدنيين والشعوب المستضعفة من حكامها، أو اعتماد معايير حقوق الإنسان في التعامل مع الأنظمة التي تخالفها، فالمعيار اليوم صراحة تبادل المصالح والمنافع والصفقات المربحة للأقوى بعدما كان سابقًا يجري مداورة وبالخفاء من أجل القيم الديمقراطية والليبرالية الإنسانية.
لا شك أن ترامب ظهر في المؤتمر بمظهر الرجل القوي القادر على تحقيق وعده الانتخابي “أمريكا أولًا”، ولا شك أن استبيانات الرأي الأمريكية بعد اليوم ستعكس ارتفاعًا في شعبيته، مما يشجعه على المضي قدمًا في أسلوبه ذاك، ولا شك أن لهذا اللقاء تأثيرًا كبيرًا على الحالة السورية، أولًا لأن النظام الأسدي فقد حليفًا شديد الأهمية العسكرية له، وثانيًا لتشابه النظامين لدرجة التوأمة، وثالثًا للتأثير الكبير على إيران سنده الأهم، ورابعًا للتوافق الروسي- الأمريكي الذي بدا حول هذا اللقاء.
فهل سنرى قريبًا نتائجه كحلٍ مقبولٍ لمشكلة الشعب السوري؟
وهل سنرى مستقبلًا صفقة تحل مشكلات الشرق الأوسط كله، وتستحق أن توصف بصفقة القرن؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :