إبراهيم العلوش
كل عام وأنتم بخير أيها السوريون جميعًا!
عيد آخر يمر علينا في حالة من البؤس والنزوح والهجرة، فأكثر من نصف السوريين قد هجروا منازلهم نتيجة الحرب التي يخوضها نظام الأسد ضد الشعب السوري، والنصف المتبقي فقد الأمان، ومصدر الرزق، وفقد الإيمان بالمستقبل، في ظل هذا المثلث القاتل، والمتكون من عائلة الأسد والاحتلالين الإيراني والروسي.
في الرقة تختلف بعض التفاصيل الصغيرة عن بقية الأراضي السورية، فالإيرانيون والروس لم يصلوا إلى هناك بعد، وقد سبقهم الأمريكيون والأوروبيون، وشركاؤهم من داعش الصفراء، المتمثلة بقوات جبال قنديل ورجالها الذين استرزقوا من وراء بيع الإحداثيات، والتي أودت بـ 80% من أبنية مدينة الرقة حسب التقارير الدولية، وتركت المدينة خرابًا، ومرتعًا لركام البيوت، وللجثث المتفسخة لأهالي الرقة الذين أصروا على عدم ترك بيوتهم، رغم مرارة العيش في ظل داعش، وأعوانها المتوحشين.
ضاعت معالم المدينة المدمرة، وضاعت الشوارع والمحلات، وضاعت جهود أهلنا، وأجدادنا الذين بذلوا حياتهم وهم يبنون هذه المدينة، التي تحدت الخراب مرات كثيرة في تاريخها.
فآخر تحد للخراب ابتدأ عام 1860، حين بدأ الناس بالتدفق إلى الرقة ليعيدوا بناءها، وقد تضاعفت الرقة عشرات المرات، لتضع اسمها من جديد في قوائم المدن السورية، معيدة ذكريات وجودها كعاصمة للخليفة هارون الرشيد، وهو أحد أهم حكام العالم القديم.
وبدأ الخراب الأخير اعتبارًا من قصف المدفعية والطيران والصواريخ بعيدة المدى، التي كان النظام يطلقها على الرقة، وقد بلغت أوجها حين بدأ تحريرها من النظام في عام 2013، واستكملت داعش دورة الخراب في العام التالي (2014)، لتستجر على الرقة وأهلها أبشع أنواع الجرائم والممارسات. وقد كان البغدادي هو المسخ المنبثق من بقايا مخابرات البعث العراقي، ومن تنظيم القاعدة، اللذين ينعمان بصفة مشتركة بينهما، وهي احتقار الناس، واعتبارهم مجرد صيصان لا بد من التضحية بهم من أجل انتصار الأمة!
وخلال مسيرة بناء الرقة، التي استمرت مئة وخمسين سنة، كانت الشخصيات الأهم هي الشخصيات البسيطة والمتفانية بالعمل والشقاء، كان فلاحو القطن والحنطة وعمال البناء ومربو الأغنام، أناسًا منسيين، رغم أنهم الأهم في تاريخ إعادة الحياة إلى الرقة.
ولكن أصحاب الدكاكين نالوا الشهرة الأكبر ونالوا المال، ثم سرعان ما تراجع نفوذهم منذ الثمانينيات، إذ صارت الطبقة المتعلمة والمثقفة هي الأكثر نفوذًا، فقد برز المحامون والأطباء والمهندسون والمعلمون، الذين أعطوا شكلًا جديدًا للرقة بجدهم، وبالنتائج التي أحرزوها في محو مظاهر التخلف، وفي تحدي القيم البالية.
ورغم أن نظام البعث خنق الكثير من المثقفين والمتعلمين، وهمشهم ودفع البعض منهم إلى مهاوي النفاق وكتابة التقارير، فإن الرقة تغير وجهها، وكانت مرحلة جديدة من التطور المديني قيد الولادة لولا بدء نظام الأسد المسعور هذه الحرب ضد السوريين.
ومن أهم الرموز الثقافية في الرقة كانت شخصية الدكتور عبد السلام العجيلي، فهو يشترك مع الكثير من أهل الرقة بصفة التواضع، والعمل بصمت، فتراه إنسانًا بسيطًا يجالس الناس في المقاهي، وفي بيوت الفرح والحزن، ولا يتفشخر بكونه طبيبًا أمام الناس العاديين، ولا بكونه كاتبًا أمام المثقفين، ولا بكونه سياسيًا سابقًا أمام المسؤولين. كان العجيلي رمزًا مركبًا فائق التأثير على أهل الرقة جميعًا، من راعي الغنم حتى حامل الدكتوراه.
لم يفارق العجيلي الرقة إلا في سفراته التي دار بها العالم، وتحدث عن الكثير منها في كتبه، التي ناهزت الخمسين كتابًا. وكان المسنون يعرفونه كطبيب يحفظ أمراض المنطقة وأمراض العائلات المتوارثة والمستوطنة، وكان الشباب يعرفونه ككاتب موهوب أسس فنًا قصصيًا مشوقًا، وربطه بالحكاية العربية القديمة، فالعجيلي حتى في مقالاته هو حكّاء وراوٍ بارع، ناهيك عن حضوره المسرحي في الجلسات العامة والخاصة، وقدرته على جذب انتباه الناس، والتأثير عليهم بكل لطف وأدب واحترام.
توفي العجيلي قبل أن يحل الدمار في الرقة، ولكنه كان شديد الحساسية لهذا المستقبل، فكان يعلق على حزن الأغاني الفراتية بذكر المآسي التي مرت على أهالي هذه المنطقة. وقد تناهش العجيلي منافقو البعث، وكالوا له التهم الشنيعة، وكان أبرز المتهجمين عليه “الشعيبي” صاحب “الفلاشة” الشهيرة، التي كان يرفعها في مقابلاته مع التلفزيون الرسمي في مظهر أثار سخرية السوريين جميعًا.
ورغم مرور اثني عشر عامًا على وفاة الدكتور عبد السلام العجيلي، لكن أعماله لم يُعد إصدارها، وضاعت بين الورثة وبين دور النشر، فالورثة الذين انشغلوا عن إحياء تراثه بأعمالهم وبإدارة أملاكهم، وبمواعيد طائرات سفرهم وعياداتهم وبمكاتبهم وبألقابهم، هم مستمرون اليوم بطمس آثار أحد أهم رموز الرقة بين دورتي الخراب 1860-2017، وهذا خراب إضافي يلحقه ورثة العجيلي بأهل الرقة، فضياع أعمال العجيلي لا يقل وقعًا علينا جميعًا من سقوط صاروخ، أو من تدمير جسر.
لقد غيبوا عنا كتابات العجيلي كما غيب الأمريكيون وجماعة أوجلان ممشاه على الجسر القديم كل مساء، لقد كان أهل الرقة جميعًا يشاهدونه، وهو يذهب كل يوم لتفقد الفرات وليطل عليه، قبل أن يعود إلى كتابة مقال أو قصة، أو استكمال رواية كان قد بدأها من قبل.
هل يستمر غياب مؤلفات العجيلي وحرمان الأجيال من التواصل مع تاريخ الرقة، خاصة وأن المدينة على مفارق طرق جديدة تحاول طمس ثقافتها وأصلها، بإلحاقها بهذا الكيان الأجنبي أو ذاك، وقد تضيع معالم حياة أهلها التي دَوّنها، ابتداءً من شارع أبو الهيس، مرورًا بكل حواريها التي أحبها… وقد صارت اليوم خرابًا!