عيد المعتقلين في سجون الأسد
أسامة أبو زيد
مع قدوم شهر رمضان وأعياد الفطر والأضحى دائمًا ما تباغتني ذكريات الزنزانة، لا لأحداث مفصلية عايشتها في هذه المناسبات خلال وجودي في المخابرات الجوية، لكن لأني أذكر تمامًا كيف كانت أنفاس رفاق الزنزانة ووجوههم وبريق أعينهم المرهقة عندما مرت هذه المناسبات ونحن هناك هناك تحت أرض دمشق.
كثيرًا ما كنا نلجأ إلى النوم طالما كان ذلك مسموحًا لنا حتى نتجاوز عتبة الوقت، لكن مع رمضان والأعياد نادرًا ما كان النوم يزور جفون المعتقلين، أشرطة الذكريات وأجواء الود التي كانت تسود بيوتنا في هذه المناسبات كانت تقتل احتمالات النوم، وبقدر ما كانت صعبة لكنها كانت جميلة. كانت تعزز الأمل والحياة في قلوب كان الأسد وجميل حسن وسجانوه يحاولون خنقها بعتمة السجن، وبزيادة جرعات التعذيب والإهانة مع قدوم هذه المناسبات.
ومع قدوم هذا العيد وجدتني أكتب هذه الاسطر حتى أعيش مجددًا مع المعتقلين وأستذكرهم في قلبي وفي وجداني، محاولًا أن أعيش معهم في يوم العيد.
بعد عشرة أشهر تقريبًا مرت على اعتقالي الثالث، وبعد نقلي من سجن فرع التحقيق في مطار المزة إلى سجن الفرقة الرابعة، وبعد جلسات تعذيب في ذلك السجن، قررت أن اضرب عن الطعام لعله يكون طريقي إلى الخلاص والموت للراحة من قهر زنزانة مكتظة بالأطفال والشيوخ والشباب المعذبين تحت الأرض في سجن الفرقة الرابعة، مر يومان دون طعام ولَم أكن أفكر إلا بأمر واحد وهو متى يأتي ذلك الموت؟ المشكلة هي أني لم أكن أستطع النوم منذ أن امتنعت عن الطعام.
في الزنزانة، أحد المعتقلين طفل من درعا عمره 14 عامًا كان أحدث المعتقلين في الزنزانة، اعتقلته المخابرات الجوية لمجرد أنه من مدينة درعا ويعمل في داريا، أراد الرفاق في الزنزانة أن يخففوا عني وأن يثنوني عن الإضراب عن الطعام فطلبوا من ذلك الطفل أن ينشد لي أغنية بصوته الملفت والبريء: جنة جنة جنة يا وطنا يا وطن يا حبيب يا بو تراب الطيب، كان لصوته وكلمات الأغنية سحرًا جعلني أغفو، كانت تلك المرة الاولى التي لم يباغتني فيها الكابوس الذي رافقني منذ أول يوم نمت فيه في المعتقل، كابوس لئيم كنت أرى في نومي أني أعبر ساتر مطار المزة العسكري الترابي باتجاه داريا، أركض مسرعًا إلى هاتف عمومي في شارع لا يوجد فيه أحد، وقبل أن أضغط الرقم الأخير من رقم هاتف بيت أبي يتعطل الهاتف، استيقظ من نومي أجدني في الزنزانة أكفر بالهواتف وبالنوم.
في ذلك اليوم لم يباغتني الكابوس، لكن باغتتني صرخات المعتقلين يحاولون إيقاظي بعد أن نادي السجان علي اسمي لأجهز أغراضي، “جهز حالك يا حيوان وجيب أغراضك”، مصطلح يعني أن من نودي عليه سيخرج من السجن، لكن إلى أين؟ لا أحد يعرف، ربما يكون نقلًا إلى معتقل آخر آو إعادة إلى فرع التحقيق إذا كان قد استجد شيء في ملف المعتقل يستوجب إعادة او استكمال التحقيق، وربما إلى الإعدام وربما إلى الحرية مجددًا. بالنسبة لي كان المهم أن أغادر سجن الفرقة الرابعة.
بعد ليلة قضيتها في سجن عدرا المركزي، قرر القاضي في محكمة داريا إخلاء سبيلي وفي طريقي الي البيت قلت في نفسي ربما هو الكابوس ذاته؟ ربما لا زلت نائمًا في زنزانة الفرقة الرابعة، لكن زغاريد أمي ودموع أبي فرحًا ودفء علم الثورة على عنقي والذي حاكته بنات أختي وصرخات إخوتي وأخواتي من أخبرتني: أنت هنا، نعم أنت هنا.
توافد إلى منزل أبي كثير من أهالي داريا وشبابها مباركين بعودتي، لكني معظم الوقت كنت أقضيه إلى جانب أمي، كنت استقبل معها الأمهات اللواتي جئن لزيارتنا وللسؤال عن أولادهن، إذا كنت قد رأيتهم أو التقيتهم أو سمعت عنهم خلال وجودي في سجون المخابرات الجوية، تلك المخابرات كانت مسؤولة عن اختفاء شباب داريا ورجالها.
أمام دموع إحدى الأمهات غرقت في الحيرة، بماذا أجيبها فلم أسمع عن ابنها شيئًا، هل أقول الحقيقة ليتألم قلبها الذي أرهقه ألم فقدها لابنها؟ أم أكذب وأنعش عندها الأمل بأنه بخير؟
كما الأمهات كان كثير من الثوار ممن لم يجربوا الاعتقال يسألني كيف هو السجن؟ وكيف كنتم هناك؟ وكيف نجوتم؟
كان التساؤل الذي يواجهني قبل الإجابة عن تلك الأسئلة، هل أخبرهم عمن ماتوا تحت التعذيب أمامي؟ هل أخبرهم أن خطيب مسجد في الغوطة الشرقية كانت عقوبته أن يبقي عاريًا طوال الوقت؟ أم أخبرهم أن خبر اقتحام الرستن قد بلغني بعد أن اجتمعت مع عائلة كاملة من الرستن، الجد وأبنائه وأحفاده، كان الجد يضرب أمام أولاده وأحفاده حتي يعترف أنه إرهابي مسلح، عندما لم يعترف جاؤوا بأصغر أحفاده و ضربوه بأنبوب حديدي اكثر من مئتين وخمسين ضربة، حتى صارت قدمه متورمة لدرجة لا تصدق، أم اخبرهم عن ابن المزة الذي كان حظه عاثرًا عندما تعطلت سيارته أمام مطار المزة العسكري قبل يوم واحد من زفافه وتم اعتقاله وبقينا أسبوعًا لا ننام من صوت صراخه اثناء التعذيب، أم أخبرهم عن العملاق الفلسطيني من مخيم الرمل الجنوبي في اللاذقية، الذي حفر السجانون في جسمه حفرًا بالمسامير، أم عن معاوية شيخ أحد عشائر درعا الذي أمعن السجانون بتعذيبه بسبب اسمه، أم عن الشهيد احمد شحادة ومازن شربجي من داريا، أم أخبرهم عن الجثث التي شاهدتها في ممر مسلخ مشفي 601؟
لكن وبكل صدق لم يكن التعذيب سمة السجن الوحيدة، رحمة إلهية كانت تتخذ أشكالًا مختلفة، تتسرب من شقوق جدران السجن القاسية، تعبر الأبواب الحديدة وصراخ السجانين وأعينهم التي كانت تقطر حقدًا، كثيرًا ما كان السجان نفسه يسوقها إلينا تلك عندما كانت تتجسد في بطل.
أبو محمد من قرية صيدا في درعا، كان يبلغ من العمر أكثر من سبعين عامًا، لكن وبالرغم من عمره كان جبلًا يتوقد ثورة، ذات يوم وقبل إخلاء سبيله قال لي ولوائل: أنا حلمي أتنفس حرية، أبو محمد قال أيضًا: المهم يا ابني سوريا ما بقي يحكمها الأسد، سوريا رح تكون حرة بعون الله.
الدكتور سالم أبو النصر من طرطوس كان مكتبة تمشي على قدمين، تحكي للمعتقلين كتبًا وأفلام سينمائية، كان يحارب الملل والإرهاق في قلوب المعتقلين.
ربيع كنعان من الزبداني والذي لم تخلُ بقعة من جسمه من علامات التعذيب، لم يتخلى يومًا عن الأمل بخروجه، كان متفائلًا دومًا، حبه لبناته اللاتي كان يذكرهن دومًا كان يترجمه تفاؤلًا وأملًا، كان أمله ومشروعه في إنتاج مسلسل وفيلم عن الثورة مساحة نقاش قتلت ملل أشهر عديدة.
وائل عبد العزيز والذي اعتقلنا معًا من أمام منزله وبسبب إبريق شاي، كان واحدًا من أولئك الذين خفف عني وجودهم الكثير.
حتى اليوم يصعب علي تفسير أسباب نوبة الضحك التي كانت تنتابني أنا وهو بعد التعذيب، كانت الدموع تختلط بالضحكات بعد كل جلسة تعذيب، كان يسخر من الانتفاخات الجديدة التي كانت لكمات السجانين ترسمها على وجهي والمكياج الذي تكتسبه عيوني بفعل تلك اللكمات، كنا نغرق في نقاش طويل فيما إذا كان ذلك الاحمرار أو الزراق حديثًا أم من ضربة قديمة.
بعد حيرة مرهقة اتخذت قراراي بالكذب على كل الأمهات وأولهن أمي، قللت من مصداقية أخبار التعذيب والموت، قررت ألا أكون واحدًا ممن ينقلون إلى الأمهات الثكالى ما شاهدته.
قررت ألا أخرج أيًا من تلك القصص من جعبتي رأفة بقلوب أهالي المعتقلين الذين أعرفهم، لعل قناعتي هذه ازدادت عندما أخبرتني أم واحد من أعز أصدقائي المعتقلين أنها استدعيت من قبل الشرطة العسكرية، والتي أبلغتها أن تذهب إلى مشفي تشرين العسكري لتستلم جثة ابنها المعتقل، أبلغتني أنها وفي طريقها إلى مشفى تشرين طلبت من سائق الميكرو باص أن يتوقف وعادت أدراجها إلى المنزل، لم تصل إلى المشفى لأنها تريد الإبقاء على ذلك الأمل، الأمل بأن ابنها سيعود يومًا وأن الجثة التي في المشفى ليست جثته وأنه ما زال على قيد الحياة .
– قناعتي هذه تغيرت اليوم بفعل عاملين اثنين، الأثر الذي تركته القصص التي رواها المعتقلون السابقون من خلال برنامج يا حرية الذي تعده الأستاذة سعاد قطناني، القصص التي تجعل مشاهدها يعيش ما يعيشه أخوتنا في المعتقلات، قصص تذكر من نجى من معتقلات المجرمين بكل التفاصيل التي يعتقد أنه نسيها، قصص تعود بالخفقان إلى القلب، خفقان الأيام الأولى من الثورة، خفقان القلوب الثائرة عندما سمعت ولأول مرة أغنية يا حيف للفنان سميح شقير، تلك الأيام التي لم تكن جموع الثائرين العزل تهاب في صرخاتها لأجل درعا الكرامة، درعا المنتفضة كل جحافل المخابرات الجوية والفرقة الرابعة التي اقتحمت مدننا، ونكلت بأهلنا وأحبابنا، قصص تجدد العزم والتصميم على ضرورة رحيل هذا النظام القذر وأعوانه.
وتجدد العزم على ضرورة محاسبة المجرمين، قصص تبرز أهمية ملف المعتقلين الحقوقي، خصوصا اننا في زمن بتنا نسمع فيه عن قفزات سمتها المعارضة “نوعية “، يراد منها تجاوز الانتقال السياسي ومطلب رحيل الأسد، لصالح نقاش الدستور والانخراط بكتابته، حتى لو كان مداد القلم الذي سيكتب دستورهم به دم الشهداء وصرخات مئات آلاف المعتقلين ودموع أمهات وزوجات اكتشفن صور أحبابهم بين صور البطل قيصر الذي كشف للعالم ملامح أبشع المجازر التي ترتكب بحق طلاب الحرية.
العامل الثاني كان الإنجاز الذي حققه المحامون والناشطون الحقوقيين في أوروبا، ضد أكبر مرتكبي الجرائم بحق المعتقلين وهو اللواء المجرم جميل حسن، جميل حسن الذي وضع خطة للقضاء على الثورة بقتل مليون سوري، مبديًا استعداده لتحمل تبعات ذلك وهي الذهاب إلى لاهاي بعد تنفيذ الخطة.
طفل من عربين لا يتجاوز عمره ثلاثة عشر عامًا، اقتادته المخابرات الجوية إلى السجن، في الطريق إلى السجن انتقم العناصر من بياض بشرته، أذابوا على ظهره عشرات أكياس النايلون حتى حفر النايلون ظهره.
في يوم وقفة عيد الفطر لعام 2011 في الليل سمعت أنينه، اعتقدت أنه يبكي بسبب اشتياقه للعيد، للثياب الجديدة وللعيدية والحلويات، بدأت أخفف عنه وقلت: يا عمو العيد الجاية بتكون عند أهلك وبتلبس أحلى لبس وبتلعب قد ما بدك.
قال لي: عمو أنا ما عم ابكي مشان الثياب والألعاب والعيديات، أنا عم ابكي لأني يتيم وانا بشتغل لاصرف على بيتنا، والمخابرات اعتقلتني يوم الخميس قبل ما وصل راتبي لأمي وأنا عم فكر هلا بأمي، أنه ما معها مصاري.
جوابه جعل من كلماتي للتخفيف عنه سخيفة بلا معنى، فهو ليس بالطفل الذي يستبدل التزامه بحماية أمه ببعض مظاهر العيد، كذلك الشعب السوري الذي أرهقته سنوات واجه فيها وحيدًا إيران وروسيا وخذلان العالم، وأنهكه انشغال أشقائه عنه بفعل صراعاتهم العبثية، وغياب مسار واضح للحل بعد أن دخلت روسيا على خط المواجهة، وزاد من معاناته معارضة هزيلة، مهما حصل لا يمكن لهذا الشعب أن يتخلى عن حقوق المعتقلين ولن يرضى الا بمحاسبة المجرمين وفي مقدمتهم المجرمين بحق المعتقلين.
وفي معرض الحديث عن المحاسبة لا بد من طرح السؤال على المعارضة السورية، المعارضة التي تضم إلى جانب كل عيوبها منصة موسكو، موسكو التي استعملت حق النقض في مجلس الأمن مرات عدة لحماية من يقتل المعتقلين، ومنعت أي جهد حقيقي للكشف عن مصير إخوتنا المغيبين في سجون الأسد.
المعارضة التي تتذرع بالواقعية السياسية لتبرير تنازلاتها الخطيرة، التنازلات التي ستؤدي بالضرورة -إذا استمرت- إلى افلات الكثير من المجرمين بحق المعتقلين من المحاسبة.
هل من عدالة للمعتقلين أقل من رحيل ومحاكمة المجرم وزمرته الأمنية؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :