يبدأ الحب والانجذاب في معظم تجارب البشر في العلاقات والصداقات كعاطفة غامضة يتلوها وله هيام، ويتبعها شغف وتعلّق وتألق، ثم تبدأ العلاقة بعد ذلك تتشابك وتتعقد ويزحف الملل والاعتياد نحو زواياها وتتعقد دروبها فتزيد خطوبها، فتسمع المحبين يشتكون: لماذا العلاقات الإنسانية معقدة بهذا القدر؟ ولماذا تحتاج أي محاولة لتبسيط العلاقة أكوامًا من التعقيد؟ لماذا لا يمكننا أن نكون عفويين كالطبيعة تلقائيين كالمطر؟
وفي محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة نعود للسؤال الأول: لماذا العلاقات الإنسانية معقدة؟، ومن المفيد أن نسأل هنا: هل العلاقات الإنسانية معقدة من حيث كونها «علاقات» أم من حيث كونها «إنسانية»؟
يخبرنا علم النفس أن تحليل شخصية الإنسان وتصرفات الفرد يتأثر بمعطيات مختلفة ومتعددة، منها جيناته ومورثاته وديانته ونوع التعليم الذي تلقاه والتربية أو الثقافة التي خضع لها، ونوع علاقاته وصداقاته، والكتب التي قرأها والموسيقى التي سمعها والتجارب التي خاضها، والمدينة التي يسكنها والأخرى التي زارها، ويوم ميلاده وحركة الفلك، ونوع غذائه، وعدد حبات الملح في طعامه! إذ إن لكل ذلك أثره الذي يرشح على شخصية الفرد، فإذا كان كل إنسان هو عبارة عن خلاصة لمزيج مدهش فريد معقد لعدد كبير من العوامل، فكيف ستكون علاقته بمزيج آخر مدهش فريد معقد؟
ببساطة.. إنها لن تكون بسيطة.
فالتعقيد إذًا قائم في طبيعة الإنسان قادم من تركيبته، ولذلك علاقاته بغيره من البشر تحمل هذا الطابع عينه، والإنسان في ذلك ليس استثناءً شاذًا عن غيره، فكذلك الطبيعة معقدة مركبة، إذ إن كل خلية حية مفردة في الطبيعة هي أشبه بمدينة مدهشة تتناغم فيها العناصر والعلاقات والتعقيدات.
فالسهل الأخضر المنبسط وقطرة المطر الشفافة يخفيان خلف مظهرهما البسيط دنيا من التعقيد وعوالم من العلاقات الدقيقة التي تسعى الطبيعة دومًا لخلق التناغم بينها وهندستها، لذلك من الأفضل أن يراجع الشعراء أنفسهم حين يطلبون من حبيباتهم أن يصبحن عفويات كالمطر أو يكنّ على طبيعتهن، فالطبيعة أكثر تعقيدًا بكثير مما تراه العين.
وإذا كان التعقيد أمر طبيعي وموجود، فهل هو أمر سيئ؟
يحمل مصطلح «التعقيد» الحمولة السلبية التي ألقاها عليه المجتمع المغرم بكل ما هو سهل، لكن التعقيد بحسب معاجم اللغات ليس مذمومًا بل على العكس من ذلك، فالتعقيد في اللغة البكر مشتق، بحسب لسان العرب، من العَقد، والعقد هو نقيض الحِل، ويقال: عقَدتَ الحبل فهو معقود، ومنه عُقدة النكاح، وعَقَدَ اليمين أكدّها، والمُعاقدة هي الميثاق وعَقَد قلبه على الشيء أي لَزِمه.
فالتعقيد هنا صنو العمق والثقة والالتزام، وحين يتحدث علماء النفس والاجتماع عن أهمية الخلافات والتعقيدات والتوترات في «ترسيخ» العلاقات واستمرارها فلن يكونوا قد ابتعدوا عن الأصل اللغوي للعقد الذي هو «نقيض الحل».
المقال هنا ليس في مقام تمجيد التعقيد وإنما في إنصافه، فتبسيط العلاقات أمر مهم ولا بد منه، ولكن تسطيح التعقيد الذي يترافق غالبًا مع العمق في العلاقة ليس جيدًا، بالتأكيد يوجد دومًا الكثير ممن يعيشون علاقاتٍ سطحية ويحتالون على ما يحتاجون بالملذات السهلة والوجود المزيف، لكن تلك العلاقات الواسعة العميقة المتينة التي تجود على وجود الإنسان بوجوه البهجة ووهج المعاني لا يمكن أن تكون بسيطة وسهلة.
أخيرًا، لأينشتاين في فيزياء المواد عبارة بليغة أراها تصلح في كيمياء العلاقات يقول فيها: «يجب جعل الأمور بسيطة قدر الإمكان، ولكن ليس أكثر من ذلك».