عنب بلدي – العدد 146 – الأحد 7/12/2014
وقفت أمل مستذكرة لحظة خروجها من داريا التي تركت في كل حجرة منها قصة وضحكة وحتى دمعة «حتى حجارة داريا يومها بكتنا عندما خرجنا، فالكل كان يهاب أن يكون غيابنا طويلًا، ومن قال بأن الحجارة لا تشعر كما نحن البشر؟ ومن قال بأنها لا تقشعر من فظاظة من يدوسها ويرمينا بها، رحم الله جدتي فقد كانت تروي لنا حكايات عن النكبة وتهجير الفلسطينيين، وكنت ألمح يدها تتسلل إلى جيبها لتتناول منديلها وتجفف دموعها المتناثرة على خديها، في محاولة يائسة منها ألا نراها، ولكنها أيضًا لم تستطع أن تخفي الغصة التي كانت ترافق صوتها، وكنت أسمع تضرعاتها للإله «اللهم آمنّا في أوطاننا واستر عوراتنا وآمن روعاتنا واجعلها على الإيمان»، لم أكن أعي كثيرًا ما كانت تقول، ولكن لم أكن أتمالك نفسي دون أن أبكي معها، وأردد آمين… آمين… يا رب، ثم دارت عجلة الحياة، وهذه المرة نحن الذين نُهجّر، فاغرورقت عيناي يومها بدموع ما برحت تخرج لتنهال على وجهي، وكل واحدة متمسّكة بالأخرى وهي تخرج على مضض، وتصرخ: «لا أريد مغادرة موطني»، هكذا قالت أمل.
حلمتُ كثيرًا بتقديم الجميل لوطني -فأنا أمل كما سمّاني أبي- ولكنني استيقظت يومًا فوجدت السماء تمطر رصاصًا وقذائف، ثم أغمي علي، لأصحو بين أكوام من الحجارة وعيوني ترحل إلى أطفال خرجوا وهم يُجرجرون أحشاءهم، بعد أن أودت تلك القذيفة بوالدهم شهيدًا واثنين منهم جرحى يضمدون ألمهم بدموعهم ووالدتهم، وجارتنا تبكي حالها بعد أن داهمت قوى الأمن منزلهم واقتادت زوجها، فأبت الخروج مع بقية أهل الحي لتنتظره، فإذا به يعود شهيدًا، لتبكيه وتبكي يتم أبنائها، خرجتُ لا أدري حال داريا أباتت مقبرة تصطفي من أبنائها؟ أم سجنًا تحاصر من بقي فيها؟ فلم تعد عرائش العنب كما عهدناها، وها هي تلفظنا خارج أرضها.
وفي لحظة كانت أشبه بحلم يبدو، أو ربما طيف راودني، انتابني ذاك الشعور الغريب بأنه لا بد من عمل شيء ما لأخفف آهات الفراق على دموعي، فسألت إحداهن: من أخرجك؟ لمَ لم تتمسّكي بوطنك؟ وهل خرجت لتقفي على الأطلال ولترثي مسقط رأسك؟ وكل مرة كانت الدمعة تحاول أن تجيب ولكنها تُفاجأ وهي تشيّع إلى مثواها الأخير لتصطدم بالأرض، ثم تليها دمعة أخرى وأخرى وأخريات كثر، حاولت أن أتبادل أطراف الحديث معها علّني أصل إلى ذاك الطيف الداراني المخيّم في تلافيف مخي.
فقالت: «كنت وأنا ألتقط أنفاسي الأخيرة أحاول الخروج لأطّلع على طرائق التفكير عند بني البشر، ولكن منهم من يحبسني ويأبى إخراجي، ومنهم من يذرفني أسى على ولد غائب أو حبيب لا يستطيع البوح بكلمات الحب، أو ربما على وطن سُلب، ومقدسات دُنّست، وخيرات ذهبت لطاغية يحب رؤيتي أنهمر بشدة على وجنات اليتامى والثكالى، ولا أنكر أن بعضهم يحاول إخراجي فرحًا لأنه يعجز التعبير عن سروره إلا بوجودي، فأنا أرافق بني البشر أفراحهم وأتراحهم، ولكن منهم من يدوسني، ومنهم من ينتظر خروجي ليمسح بي جراحه».
وقفت أمل يومها ومنذ عامين تودع داريا، وهي مازالت حتى الآن تحملها على جبينها، بين دمها ودموعها، دون أن تدرك يومها أن ما ينتظرها ثقوب جدران في قبو ملجأ خارج حدود سوريا وليس فقط داريا، لأطفال يتكومون وأمهم بانتظار من يحمل لهم كسرات خبز.
نامت أمل بعد أن عصرت منديلها المبلل بالدمع حزنًا على إخوتها الذين غيبتهم رحى الحرب، ووالدها الذي استلته يد الطاغية، حيث أصابته رصاصات قناص غادر قبيل خروجهم، ووطنها الحبيب، وحبّها الغائب، وأحلامها الكبيرة التي تقلّصت حتى أصبحت بحجم دمعة صغيرة.
نامت أمل، ونحن نحلم أن تستيقظ بعد أن يجف منديلها، لنبدأ حياة مليئة بالأمل.