حنين النقري – دوما
المجازر الأخيرة المرتكبة في دوما، ثم الدمار الذي لحق بالمدينة من أبنية وشوارع ومرافق عامّة وبنىً تحتية (كحال كل المدن والمحافظات التي امتدت إليها يد كتائب الاسد بالدمار)، وعمليات التهجير والنزوح الجماعي الواسعة إلى كافة مناطق الريف الدمشقي (أو العاصمة دمشق)، توحي للمرء بالكثير من الأفكار..
سيكون هناك عمل كثير في مرحلة سوريا ما بعد التحرير.. ﻹعادة إعمار البلاد المدمرة، وإعادة المهجّرين لمساكنهم ومدنهم وقراهم، إعادة بناء البيوت والشوارع التي غابت ملامحها تمامًا…
لم لا نستغل فرصة الهدم لنجعل من المرحلة القادمة مرحلة بناء بتخطيط وتنظيم كبيرين وفق نماذج تليق بساكنيها وتحترم إنسانيتهم؟
لم لا، لنعمر بلدًا جديدًا بدراسة جدّية تحقق لنا الأفضل وتستفيد من سلبيات مدننا في السابق لتلافيها؟
لم لا يكون التفكير في هذا المجال متّجها صوب الضواحي الريفية والسكن بها؟
الكثافة السكّانية عالية جدًا في دمشق وريفها -لا أدري الحال في باقي المحافظات ولا وسيلة لدي الآن للتحقق من الكثافة السكانية في باقي المحافظات السورية-
أسعار العقارات في الفترة الأخيرة كانت مرتفعة بشكل قياسي -قبل اشتعال الثورة-، وامتلاك منزل خاص أضحى حلمًا بعيد المنال لدى الكثيرين…
أتاحت لنا تجربة التهجير أن نخبر واقع السكنى في الأرياف بشكل عمليّ، صحيح أنها تجربة لن تكون الأفضل نفسيّا -لأن الهجرة فيها قسرية- لكن بإمكان المرء أن يعايشها بنظرة مختلفة عن التهجير، بنظرة مجرّب لحياة جديدة من نوع مختلف تستحق أن نعيشها بكل تفاصيلها وننتبه لكل ما فيها من جمال وإشراق…
الهدوء -كميزة أولى رائعة نفتقدها في مدننا-، قلة الزحام، أصوات العصافير، النشاط الصباحي، المناخ المعتدل والمائل للبرودة مساءًا، إطلاق البصر على امتداد الأفق الأخضر أمامك -الأمر الذي نفتقده في بيوتنا الصغيرة-، النهار الذي يبدو أطول حقًّا ببركة البكور، الثمار الطازجة، قلّة الضجيج الضوئي والسمعي، الهواء النقي…
ستواجهك -ولابد- صعوبات أيضًا، غياب الخدمات وبعدها عن مقر إقامتك -ستحتاج لوسيلة نقل خاصة تقلّك لمكان عملك أو دراستك-، سوء تغطية الاتصالات والانترنت أو غيابها بشكل كامل عن بعض المناطق -أعتقد أنها مشكلة ستحل بعد التحرير بإتاحة فرص المنافسة في السوق لشركات اتصالات جديدة-، الحشرات والبعوض في بعض الأحيان..
للأمر منافع، وله تحدّيات، وستعيش هذين الصنفين في تجربة تهجيرك وإقامتك بعيدًا عن منزلك -الذي تحنّ له حتمًا وتتساءل عمّا حلّ به-…
أنصحك أن تعيشهما -المنافع والصعوبات- بحب، برضا عن مرحلة جديدة علّها ترويض للنفوس على التأقلم مع تغيّر الظروف، علّها تفتح عينيك على أمور لم تنتبه لها يومًا..على حلول جديدة بسيطة لتحديات صعبة ومعقّدة..
ستفكّر حتمًا كما أفكّر أنا الآن..هل سأعود إلى منزلي، هل لازال ثمة منزل في حارتي التي أحب أعود إليه ليأويني، هل لازالت غرفتي في مكانها أم أن قذيفة أو صاروخًا أحالها ركامًا يحوي بقايا ذكرياتي، مكتبتي.. -وتكثر إشارات الاستفهام امام مكتبتي-..
ستفكّر بأمل أحيانًا، بسوداوية أحيانًا أخرى، وستشعر برغبة مجنونة عارمة تجتاحك للمجازفة بحياتك والعودة تحت القصف على حين غرّة…
مشاعر كثيرة مختلطة في داخلك…تعطّل عليك أن تعيش اللحظة كما هي وتستمتع بجمال الطبيعة حولك، وتستمع بابتكار طرق تعينك على تجاوز التحديات ببساطة وبراعة…
تحنّ؟ كثيرًا جدًا، تتألم؟؟ للغاية…
دع عنك ذكرياتك… دع عنك أوهامك المؤلمة المتشبثة بأطلال منزلك…
واستمتع بلحظتك… بيومك… بتجربة سنستفيد منها حتمًا في مرحلة التحرير…
وتذكر..أن بسمتك اليوم وتسخيرك لظروفك الجديدة لصالحك بحب ورضا، هي كل رصيدك..هي السلاح الأعنف في وجه من قام بتهجيرك
فاشهر سلاحك.. وابتسم 🙂