ما الذي بقي من سوريا؟
فيكتوريوس بيان شمس
استطاع النظام السوري دخول منطقة الغوطة الشرقية بعد أكثر من خمس سنوات على الحصار والتجويع والقصف المركّز، الذي استهدف أول ما استهدف المرافق الطبية والتعليمية والخدمية لتحويل الحياة في المنطقة إلى جحيم لا يطاق وسط صمت عالمي مطبق، بدا وكأنه تواطؤ أكثر منه عدم اكتراث.
دخول الغوطة سبقه وعلى مدى سنوات، وضمن استراتيجية قضم بطيء، الاستيلاء على العديد من المناطق كحمص والقلمون وحلب وغيرها. خسارة بعض هذه الأماكن كان بتواطؤ دول ادّعت وقوفها مع الثورة، إلا أنها قايضت مناطق على حدودها بمناطق أخرى لحفظ أمنها، مع ما يعنيه ذلك من تهجير وضحايا ومسح لمناطق عن خارطة البلاد التي سيطرت قوى الثورة يومًا على حوالي 80% من مساحتها، ليُحاصَر النظام داخل بضعة مدن، قبل أن تتدخّل إيران وميليشياتها رسميًا في العام 2013، ثم روسيا في العام 2015، وهو ما حال دون سقوطه، إذًا، ما الذي حدث بالضبط؟
قبل نهاية العام 2011، وأمام العنف الممنهج الذي اعتمده النظام منذ اللحظة الأولى لمواجهة الثورة، والذي تعددت أشكاله، بين قتل في الشوارع والمعتقلات، واقتحامات لمدن بغية نهبها وانتهاك حرماتها لتركيع الناس وإجبارهم على التراجع عن ثورتهم، اضطر الشعب السوري للدفاع عن نفسه، فتشكل ما عرف بـ “الجيش السوري الحر”، والذي كان تسليحه ذاتيًا في البداية، فعدد لا بأس به من الذين انشقوا عن النظام، أخذوا أسلحتهم معهم، وقد استطاعوا في مراحل أخرى اغتنام أسلحة متوسطة وثقيلة، قبل أن تبدأ بالظهور حركات إسلامية متعددة بتعدد ولاءاتها ومرجعياتها وداعميها، وهو ما يُفهم منه وكأنه تعدد في تأويلاتها وفهمها للإسلام، ورؤيتها لإدارة الصراع. أغلب هذه الحركات مسلّحة وممولة بشكل جيد، بعضها نفّذ عروضًا عسكرية باهرة، إلا أنها لم تحقق الكثير، بل اكتفت غالبًا بلعب دور الدفاع، وقد اشتبكت في أحيان كثيرة مع بعضها، وأحيان أخرى مع “الجيش السوري الحر”، والذي بدأ يتقلص دوره وحجمه لأسباب كثيرة، منها نُدرة الدعم، والحروب المستمرة التي خاضها على عدة جبهات في آن واحد: ضد النظام، وضد بعض المنظمات الأصولية التي ليس أقلها أو آخرها “داعش”، وبسبب ارتهان بعض أجنحته في آخر مراحل ترهله لبرامج خارجية.
بالتزامن، وعلى خط موازي، ظهرت أطر سياسية كبيرة وكثيرة ومموّلة بشكل جيد، لم تعتنق أي أيديولوجيا بشكل واضح، باستثناء ترداد رموزها بعض الشعارات الأساسية التي رفعت في المظاهرات كـ “إسقاط النظام”، و”وحدة الشعب السوري”، و”الدولة المدنية الديموقراطية التعددية”، وقد بدت بعد سبع سنوات على انطلاق الثورة، وتهجير أكثر من نصف الشعب السوري بعد تدمير حواضره، فيما يبدو وكأنه احتلال إحلالي على النمط الصهيوني، وتقسيم بحكم الأمر الواقع، والتغيّر المستمر لخريطة البلاد الجغرافية والديموغرافية، بدت هذه الشعارات فضفاضة وفارغة من أي مضمون بغياب أي آلية واضحة لتنفيذها وتطبيقها، كما بدت وكأنها اعتُمدت أصلًا لاحتواء الشارع والاستيلاء على خياراته بعد أن تراجع دوره تحت وطأة العنف والوحشية التي مورست ضده. غني عن التعريف، أن كل هذه الأطر لم تنبثق عن الحراك، ولم يكن للشعب السوري أي رأي أو دور بوجودها وتكوّنها، وهو ما يشبه وجود النظام نفسه، مع أن الشعب السوري قام بالأساس من أجل تأسيس عقد اجتماعي جديد، قائم على الديموقراطية، والتعددية، وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، ومساءلة المواطن للحاكم. مسيّرةً أم مخيّرة، فاوضت هذه الأطر متعدّدة الولاءات باسم الشعب السوري الذي صفّق لها أحيانًا، وتظاهر احتجاجًا على رداءة أدائها أحيانًا أخرى عندما حادت عن مطالبه.
وعلى ضوء الوضع الحالي، والانحدار بعد الصعود، لا يلوح في الأفق تشكّل أي بديل شعبي قادر على جمع ما تبعثر خلال هذه السنوات السبع، لأنه وببساطة، هنالك قرار دولي يعمل المستحيل لمنع تشكل هذا البديل. وما إيجاد هذا الكم الهائل من الفصائل الإسلامية المتقاتلة، والأطر السياسية الباهتة منعدمة التمثيل منذ بداية المذبحة، إلا لمنع هذا البديل من الظهور، حتى وإن كانت التكلفة تغيير شعب، بل شعوب بأكملها إذا ما أصرت على التغيير، ليس في سوريا فحسب، بل في كل الدول التي ثارت شعوبها على أنظمتها وإن بطرق وأشكال مختلفة، ومتفاوتة في دمويتها.
بعد كل هذا يصح السؤال: ما الذي بقي من الثورة السورية؟ لكن، وبنفس أهمية هذا السؤال، يجوز السؤال التالي: ما الذي بقي من النظام السوري؟ بل ما الذي بقي من سوريا بشكلها الذي كانت عليه قبل منتصف آذار 2011؟ وما هي مقاييس النصر والهزيمة أصلًا في هكذا معركة؟ إذ أن إسقاط رأس النظام كان أقصى طموحات الناس في بدايات الحراك، ليس في سوريا فحسب، بل في كل الدول العربية التي انتفضت شعوبها على أنظمتها، وهو ما يعني أن بقاء رأس النظام هو انتصار له، وهزيمة لشعبه. هل ما زالت هذه هي قاعدة النصر والهزيمة بعد تفتيت البلاد وتهجير نصف سكانها وإغراقها بالصراعات الطائفية والقومية والمناطقية؟ في مصر وتونس، وإلى حد ما في ليبيا واليمن، وبتواطؤ أنظمة عربية توتاليتارية تصارع التاريخ في محاولة البقاء والاستمرار، استطاع النظام الرسمي تجديد نفسه، وإن ضحى برأسه، وقد ازدادت وتيرة عنف هذه الأنظمة أكثر من السابق تحت ذرائع مختلفة لم تكن موجودة قبل الثورات، أهمها “مكافحة الإرهاب”. وهو ما يعني -رغم تعقّد المشهد السوري مقارنة بسواه- أن عنف النظام السوري إذا تمكن من البقاء (ولو إلى حين) سيكون أشد فتكًا وأكثر دموية وهو الذي تعامل بمنطق الثأر والانتقام مع شعبه منذ اللحظات الأولى للثورة.
ما الذي بقي من سوريا؟ مع ضرورة التمسّك بالأمل: لم يبق سوى الركام.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :