عنب بلدي – رهام الأسعد
منذ خمسينيات القرن الماضي، طرأت تعديلات خجولة على بعض مواد قانون الأحوال الشخصية السوري، جعلته في مواجهة مع انتقادات وتساؤلات عدة عن مدى جدواه وتماشيه مع متغيرات العصر الحديث، فأسسه المستمدة من الأديان والشرائع والدستور لا تمنحه المرونة الكافية لإحداث تغييرات جذرية.
بعيدًا عن شؤون الدولة السياسية وأمورها السيادية، يُنظر عالميًا إلى قانون الأحوال الشخصية على أنه أحد أهم القوانين القائمة في الدولة، كونه على اتصال وثيق بحياة المواطنين ويومياتهم، فضلًا عن أنه الركيزة الأساسية التي تستند إليها الحكومات للإضاءة على تفوقها وريادتها في تنظيم الأمور المدنية لمواطنيها.
لم يكن تنظيم أمور السوريين، من زواج وطلاق وإرث وغيرها من الأحوال المدنية، وليد الحكومات المتعاقبة على حكم سوريا، بل يعود إلى عقود عدة، أوكلت فيها تلك الأمور التنظيمية إلى جهات دينية مختصة، لترزح بعدها تحت قبة الحكومات التي عملت على قوننته ضمن ما يعرف بـ “قانون الأحوال الشخصية السوري”.
يعتمد قانون الأحوال الشخصية السوري، بصيغته الحالية، على الأحكام الفقهية الواردة في المذاهب الإسلامية، ونص القانون صراحةً على أن “كل ما لم يرد عليه نص في هذا القانون يرجع فيه إلى القول الأرجح في المذهب الحنفي الإسلامي”، مع الإشارة إلى وجود أحكام خاصة تطبق على الموحدين الدروز وعلى أتباع الديانات الأخرى، تكون مستمدة من مذاهبهم المختلفة.
تلك الركيزة الدينية، فضلًا عن ركائز دستورية أخرى، جعلت من تعديل قانون الأحوال الشخصية السوري أمرًا صعبًا لكنه ليس مستحيلًا، إذ قال القاضي السوري إبراهيم حسين، عضو المجلس القضائي السوري المستقل، إن القانون المذكور يمكن تعديله مثله مثل كل القوانين السورية الأخرى، ولا يوجد أي مانع يحول دون تعديل أي مادة فيه طالما أن التعديلات لا تتعارض مع الدستور ومع الأحكام الشرعية الثابتة.
وعن آلية التعديل، أوضح القاضي إبراهيم حسين لعنب بلدي أن خصوصية قانون الأحوال الشخصية تفرض، وبشكل “غير رسمي”، تمريره إلى بعض الهيئات التي تمثل علماء الدين المسلمين ورجال الدين غير المسلمين والهيئات الخاصة بشؤون المرأة، وذلك قبل إجراء أي تعديل على مواده.
أما الصيغة الرسمية للتعديل فتكون عبر إعداد الحكومة السورية مشروع قانون تحيله إلى مجلس الشعب، وبعد دراسة النص والتأكد من عدم مخالفته للدستور يناقشه المجلس، فإن تم إقراره يصبح قانونًا مُلزمًا.
مآخذ “لا يمكن حصرها”
يواجه قانون الأحوال الشخصية السوري جملة من الانتقادات “لا يمكن حصرها”، كونه وليد عام 1953، فالتعديلات التي طرأت على بعض مواده منذ ذلك الزمن “لم تكن كافية” لجعله قانونًا يساير العصر ويلبي حاجات المجتمع ويعالج ما طرأ عليه من مشكلات، من وجهة نظر القاضي إبراهيم حسين.
أبرز الاتهامات الموجهة للقانون أنه “غير منصف” للمرأة والأطفال، فيما يتعلق بموضوع الأهلية للزواج وموضوع الطلاق وحضانة الأولاد والنفقة والوصاية والإرث، ومواد أخرى لا تزال حتى الآن تثير حفيظة الجهات المدافعة عن حقوق النساء.
تلك الانتقادات شملت مطالب رئيسية برفع سن زواج الشاب والفتاة إلى 18 عامًا، إذ إن المادة “16” من القانون الحالي، تحدد سن الزواج للشاب بتمام الـ 18، أما الفتاة فيسمح لها بالزواج في سن الـ 17.
كما تسود المطالب بإلغاء المادة “18”، والتي تنص على أنه إذا ادعى المراهق البلوغ بعد إكمال سن الـ 15، أو إذا ادعت الفتاة ذلك بعد سن الـ 13، وطلبا الزواج فيأذن لهما القاضي بعد التحقق من صحة ادعائهما وقدرتهما الجسدية على الزواج، ويشترط موافقة الوالدين أو الجدين في حال كانوا موجودين.
أما المادة “70” والمتعلقة بسفر الزوجة، فتنص على أنه “تُجبر الزوجة على السفر مع زوجها، إلا إذا اشترط في العقد غير ذلك، أو وجد القاضي مانعًا من السفر”، إذ سادت المطالب بضرورة أن يتفق الزوجان على السفر إلا ما اشترط عليه في العقد.
وفي نفس السياق، يثير حصر سفر الأولاد بموافقة والدهم فقط انتقادات عدة، إذ إن القانون الحالي لا يسمح للزوجة أو المطلقة السفر خارج البلاد مع أولادها إلا بعد موافقة زوجها أو طليقها، فضلًا عن مشكلات عدة تتعلق بحظر منح المرأة السورية جنسيتها لأطفالها من زوجها الأجنبي، وأمور أخرى تتعلق بحقها في تطليق نفسها والوصاية والحضانة وغيرها.
وتعليقًا على ذلك، قال القاضي إبراهيم حسين إن القانون يحتاج لتعديلات تتماشى مع روح العصر، خاصة أن القاعدة الشرعية تقول “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”، مشيرًا إلى أنه من الطبيعي أن تكون هناك تعديلات تتماشى مع دور المرأة السورية وتتلاءم معه، خاصة في ظل الحاجة لدورها بتنمية المجتمع السوري والنهوض به مؤخرًا.
وتابع “بالتأكيد القانون بصيغته الحالية عاجز عن الإحاطة بكل المشكلات التي نخرت في المجتمع السوري، بسبب الصراع العسكري وما نجم عنه من إشكالات قانونية لم تؤخذ بعين الحسبان سابقًا”.
وعلى صعيد آخر، ترد بعض الملاحظات على مواد في قانون الأحوال الشخصية السوري المتعلقة بغير المسلمين، وإلزامهم كذلك ببعض الأحكام المستمدة من الشريعة الإسلامية.
وعلى خلاف ما هو شائع، يرى القاضي الشرعي الأول بدمشق، محمود المعراوي، أن قانون الأحوال الشخصية الحالي لم يظلم المرأة بل كان مجحفًا بحق الرجل، وقال في حديثه إلى صحيفة “الوطن” المحلية، عام 2015، إنه تم رصد ما يقارب 14 حالة في القانون “تظلم” الرجل، أبرزها مسألة الحضانة.
إذ إنه يحق للمرأة الحصول على حضانة أولادها بمجرد تقديم طلب إداري إلى القاضي الشرعي مباشرة، أما إذا أصبحت الحضانة من حق الرجل فيجب أن يرفع “دعوى خصومة” في المحكمة، قد تأخذ وقتًا طويلًا للبت فيها.
إلى أي مدى يطبق القانون في سوريا؟
على الصعيد الرسمي، هناك التزام شبه كامل بأحكام قانون الأحوال الشخصية السوري، خاصة في المحاكم ودوائر الدولة المختلفة، لكن المشكلة تكمن نسبيًا في عدم الالتزام المجتمعي الكامل بالنصوص الواردة في هذا القانون، خاصة فيما يتعلق بموضوع حق المرأة في الميراث وتعدد الزوجات.
إذ لا يزال حرمان المرأة السورية من حصتها الإرثية في بعض المناطق، إحدى المسائل العالقة في المجتمع السوري، وما يجبرها على التخلي عنها ضغوط مجتمعية أبرزها “عدم الثقة بكفاءتها”، رغم أن القانون والشرع يؤكدان على حقها في الميراث، ولها نصف حصة الرجل.
وفي حين تعددت الجهات المسيطرة على الأرض في سوريا، منذ عام 2011، شرّعت بعض الجهات الحاكمة قوانين خاصة بها، لم يألفها المجتمع السوري، أهمها منع تعدد الزوجات، كما هو الحال في مناطق الإدارة الذاتية شمالي سوريا، حيث تم تشريع الزواج المدني ومُنع تعدد الزوجات إضافة إلى أمور أخرى مختلفة تتعارض مع ما ينص عليه قانون الأحوال الشخصية المطبق، حتى الآن، وبشكل رسمي في كل الأراضي السورية.
تاريخ قانون الأحوال الشخصية السوري
استخدم مصطلح “قانون الأحوال الشخصية” في سوريا لأول مرة عام 1953، حين أقر بموجب المرسوم التشريعي رقم “59”، واستندت حينها جميع مواده إلى أحكام شرعية مستمدة من الشريعة الإسلامية.
لكن تنظيم الأحوال المدنية للسوريين ضمن إطار قانوني لم يبدأ فعليًا في العام 1953، بل يعود إلى أواخر الحكم العثماني عام 1917، وكان معروفًا حينها باسم “قانون حقوق العائلة”، وضم 157 مادة تنظم أمور الزواج والطلاق وحقوق المرأة والطفل وغيرها من شؤون العائلة.
قانون العائلة العثماني كان الأرضية التي استند إليها قانون الأحوال الشخصية السوري رقم “59”، مضافًا إليه بنود أخرى مستمدة من قانون الأحوال الشخصية المصري، ومشروع قانون الأحوال الشخصية الذي أعده القاضي والشيخ السوري علي الطنطاوي عام 1947.
الزواج والطلاق في مهب التعديلات
بقي القانون رقم “59” ساريًا بأحكامه حتى عام 1975، حين بدأت التعديلات تدخل تدريجيًا على مواده، إذ صدر قانون الأحوال الشخصية السوري رقم “34”، في نفس العام، محدثًا تغييرات صبت بالمجمل في إطار الزواج والطلاق والنفقة وحضانة الأطفال.
وبموجب التعديلات، نصت المادة رقم “7” من القانون رقم “34” على أنه “يسقط حق الزوجة في النفقة إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها”، كما أعطى الزوج الحق بأن يوكل غيره بالتطليق وأن يفوض المرأة بتطليق نفسها، وفقًا للمادة رقم “87”.
أما المادة “146” فنصت على أن مدة حضانة الأم تنتهي بعد إتمام الغلام سن السابعة والبنت سن التاسعة، في حين نصت المادة “139” على أن “حق الحضانة بالدرجة الأولى للأم وفي حال غابت الأم توكل الحضانة لأمها ثم لأم الأب ثم للأخت الشقيقة ثم لأخت الأم ثم لأخت الأب ثم للخالات والعمات بهذا الترتيب، ثم للعصبات من الذكور على ترتيب الإرث”.
ومن ضمن التعديلات التي أجراها القانون “34”على القانون “59” هو تعديل المادة “142” المتعلقة بنفقة الأطفال، ونصت المادة المعدلة على أن “أجرة الحضانة تكون على المكلف بنفقة الصغير وتقدر بحسب حال المكلف بها”.
مشروع جديد لم يولد
لم تشهد الفترة بين عامي 1975 و2000 أي تعديلات على قانون الأحوال الشخصية السوري، لتبدأ بعدها جملة من التغييرات، أبرزها تعديل المادة “205”، عام 2000، المتعلقة بأحكام المفقود.
إذ نص التعديل على ما يلي “ينتهي الفقدان بعودة المفقود أو بموته أو بالحكم باعتباره ميتًا عند بلوغه الـ 80 من العمر” وذلك في حالات السلم، أما في حالات الحرب فتنص المادة على أنه “يحكم بموت المفقود بسبب العمليات الحربية أو الحالات المماثلة المنصوص عليها في القوانين العسكرية النافذة والتي يغلب عليه فيها الهلاك، وذلك بعد أربع سنوات من تاريخ فقدانه”.
وكانت المادة “205” تنص قبل التعديل على أنه لا يعترف بموت الغائب إلا بعد بلوغه سن الـ 80، وذلك في حالتي السلم والحرب.
تعديلات أخرى طرأت على قانون الأحوال الشخصية السوري عام 2003، وصفت بـ “الجوهرية”، إذ تم زيادة فترة حضانة الأم لأطفالها، بموجب المادة “146”، التي نصت على أن مدة حضانة الأم تنتهي حين بلوغ الغلام سن الـ 13 والبنت سن الـ 15 من عمرها، وللأم أن تطلب من القاضي تسليمها طفلها أو طفلتها دون الحاجة إلى رفع دعوى قضائية.
وسارت التوجهات بعدها إلى صياغة قانون جديد للأحوال الشخصية في سوريا، إذ تشكلت لجنة لإعداد قانون جديد بموجب القرار “2437” الصادر في حزيران 2007 عن رئيس مجلس الوزراء السوري، وانتهت اللجنة من وضع مشروعها، في نيسان 2009، لكنه بقي حبيس الأدراج بعد أن واجه انتقادات عدة بسبب “مخالفته للإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية حقوق الطفل واتفاقية مناهضة العنف ضد المرأة”.