في نهاية الثمانينات، وصف الصحافي البريطاني الشهير، باتريك سيل، تحالف حافظ الأسد مع إيران الثورة، بأنه أجرأ ملامح سياسة الأسد الخارجية. واليوم، يحار المراقبون في تفسير تمسك الأسد الابن بذلك التحالف، رغم المخاطر الكبرى التي تترتب عليه.
التفسير الأكثر شيوعاً، هو خشية الأسد الابن من الوقوع في براثن حليف وحيد، وهو هنا في هذه الحالة، روسيا. فالأسد يريد هامشاً للتحرك، وذلك ما يوفره وجود حليفين له، بينهما شيء من الريبة والاختلاف في الأجندات، بحيث يكون نظام الأسد القاسم المشترك الأكبر بينهما. ورغم دقة هذا التفسير، إلا أنه لا يوضح، لماذا يريد الأسد الابن، هامشاً للتحرك؟.. هل يأمل استعادة جزء مما خسره من هامش صناعة القرار بدمشق، الذي كان ينفرد به قبل الثورة، عام 2011، ليشاركه به اليوم، الإيرانيون والروس؟.. أم أن الأسد الابن يأمن لإيران أكثر من موسكو؟.. أم أنه يحاول اللعب على حبال الطرفين؟
قد نجد جواباً لما سبق، إن عدنا إلى بداية حكاية ذلك التحالف الوطيد، بين نظام الأسد بدمشق، وإيران الثورة. ففي كتابه الشهير، “الأسد، الصراع على الشرق الأوسط”، يقر باتريك سيل، بأنه رغم الأسباب الاستراتيجية المهمة، التي بررت ذلك التحالف، في نظر الأسد الأب، حينها، إلا أنه كانت لذلك التحالف، “جذور في خلفيته كأحد أبناء طائفة مشتقة من التشيع”.
حالف الأسد الأب إيران الثورة، في وقتٍ كانت منبوذة ومرفوضة، ولا تملك أي قوة أو نفوذ خارجي، وكانت ما تزال في خضم فوضى داخلية، قبل أن تتورط في حرب شعواء دامت ثماني سنوات مع العراق. اليوم، الأسد الابن حليف لقوة إقليمية، لا يستطيع أحد أن ينكر وزنها الشرق أوسطي. فلماذا اختار الأب، حينها، التحالف مع إيران، رغم ضعفها النسبي في ذلك الوقت، ورغم ما جرّه عليه ذلك من توتر دائم في العلاقات مع الأصدقاء الخليجيين تحديداً؟
يروي باتريك سيل، نقلاً عن مصادر عديدة، من بينها الأسد الأب، نفسه، جملة أسباب استراتيجية، لكنه يعرّج، بصراحة فجّة، على البعد السيكولوجي، لقرارات وسلوكيات الأسد الأب، مشيراً إلى الرابطة المذهبية بين الطرفين، التي دفعت الأسد الأب للإيمان بأهمية ارتباط نظامه، الوطيد، بالإيرانيين، بعد الثورة الإسلامية.
سيكولوجية العقل الأقلوي، تلك التي تحكم الوعي الجمعي لأبناء الأقليات فتدفعهم للتماسك، في معظم الحالات، تشكل التفسير الرئيس لذلك التماسك في تحالف نظام الأسد مع إيران، رغم كل ما اعتراه من تحديات وتهديدات.
من يعرف العلويين جيداً في سوريا، يستغرب دون شك، تمسكهم بالتحالف مع إيران، وهم الأقلية الميّالة للتحرر الاجتماعي، البعيدين عن مظاهر الالتزام الديني، بخلاف الشيعة الاثني عشرية، الذين يمثل خامنئي في طهران اليوم، أبرز مرجعياتهم. لكن، إن سألت أي علويّ مطلع، ونزيه، سيصدقك القول، فيخبرك أنهم يؤمنون بالحاجة للتماسك، وتعضيد الصفوف، حتى لو لم يكن الكثير منهم راضياً عن قيادة آل الأسد للطائفة. فالفرقة والانقسام، لا تعني فقط، خسارة كل مكاسبهم كطائفة أخذت أكبر من حجمها في سوريا، بل قد تعني تعرضهم للانتقام، جراء سياسات إجرامية حيال الأكثرية السُنية، طوال العقود الخمسة الماضية، كانوا هم ركيزتها العنفية الرئيسية.
لكن، في سوريا، حيث العلويين أقلية صغيرة، لا يكفي التماسك وتعضيد الصفوف. هم بحاجة لأبعد من ذلك. هم بحاجة لغطاء عابر للحدود. وانتماء أوسع من الانتماء الطائفي الضيق الذي يتحدرون منه. ذلك الانتماء الذي ربما يجد في تعبيراته السلوكية، ميلاً للروس، أكثر منه للإيرانيين. لكنه، في البعد العقائدي، والمصلحي العام، يرى في التشيع، الانتماء الذي يناسب لتغطيته. ذلك ما قرره الأسد الأب، منذ عام 1973، حينما أكد صديقه المقرب، حينذاك، موسى الصدر، انتماء طائفته الإسلامي، عبر نسبِهم للمسلمين الشيعة، رداً على الاتهامات التي كانت توجه بشكل غير مباشر، للعلويين، يومها، بأنهم غير مسلمين.
إن كنت تريد أن تحيا في الشرق المسلم، وتتبوأ موقعاً قيادياً في إحدى دوله، لا بد أن تكون مسلماً. هذا ما خلص إليه الأسد الأب، وقدمه له، موسى الصدر، حينها.
الانتماء الشيعي، حاجة سياسية واجتماعية ملحة للعلويين في سوريا. والتحالف مع إيران، حاجة استراتيجية ملحة، تتعلق بالارتباط بمحور آمن، نسبياً، ومرن في الوقت نفسه، سمح للأسد الأب لسنوات طويلة، أن يتحرك بأريحية، وبهامش مناورة عالٍ. فالأسد الأب، أراد دوماً علاقات مستقرة مع الغرب. لكنه في الوقت نفسه، أراد مظلة إقليمية، تقيه من تقلبات المواقف والسياسات في الغرب.
في سنوات حياته الأخيرة، لا بد أن الأسد الأب قضى ساعات مطولة مع ابنه، خلال تأهيله لخلافته، ليتلو عليه وصاياه في الحكم. ولا بد أن التحالف مع إيران، كان أبرزها. لا بد أن حافظ قال لابنه يومها، لا تجعل نشأتك الدمشقية، واغترابك اللندني، وصداقاتك السُنية واسعة النطاق، تُنسيك عَضُدُك الطائفي، الذي سيشتد لدعمك، حين الملمات. عَضُدٌ يجب ألا ينحصر في سوريا، بل يجب أن يمتد إلى طهران.