دمشق.. مدينة الأسد الفاضلة
حنين النقري – ريف دمشق
لو أتيح لنا التقاط صورة فضائية لسوريا، أرضًا وبناء وزرعًا وغابات وبنى، لاتضح حجم الخراب والدمار المهول في كل مناطقها ومحافظاتها وقراها، لكن هذا لا يمنع وجود استثناءات لا زالت تحافظ على مظاهر الحياة فيها، وإن كان الأمر مع قدر كبير من التصنع والأمن الظاهري المزيّف؛ إنها دمشق، العاصمة القديمة، هي إحدى أبرز هذه الاستثناءات وأكثرها وضوحًا.
ولا يحتاج الأمر منا لصورة فضائية، إذ يكفي أن تطلب من أحد أبناء المحافظات المنهوبة، أو الأرياف المنكوبة زيارة دمشق، لترى في عيونهم الذهول من أن الحياة “مستمرة” هنا.
مستعمرة أسدية للشبيحة والجيش والحواجز؛ نعم، لكنها ديموغرافيًا، طبوغرافيًا، علميًا، تجاريًا، لا زالت بالظاهر مستمرة بنشاطاتها، رغم الحرب.
وليس الكلام عن هذا رغبة بأن تنقلب الموازين في المدينة، بل استيضاحًا لمحاولات النظام الحثيثة بأن تبقى دمشق على هذه الصورة أطول فترة ممكنة بشتى الوسائل المتاحة، تمامًا كما تلجأ عجوز لكل ما تطاله يدها لتبعد عن وجهها ملامح الشيخوخة.
لقد سرت شيخوخة النظام هذه في أرجاء سوريا جميعا لكنّها في دمشق غير ظاهرة، فهل عمل النظام على تحصين دمشق من “الشيخوخة” منذ عقود دون أن ندري؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من العودة بالزمن 4 سنوات خلت، لتصحّ المقارنة بين دمشق وباقي المحافظات في ظروف واحدة، فالعلم لا يقارن بين عيّنتين في ظروف مختلفة.
مدننا كانت جميلة وهادئة هانئة وقتها، لكنها كانت بمعظمها مهملة؛ البنى التحتية، الشوارع، المواصلات، الاتصالات، الكهرباء والماء، ثمة فوارق بسنين ضوئية بين الاهتمام الذي يوليه النظام لدمشق وبين اهتمامه بباقي المحافظات، حتى الريف الدمشقي يبدو متخلفًا ضنينًا بالخدمات مقارنة بحال العاصمة.
والأمر هنا يتجاوز كونها العاصمة محط الأنظار إعلاميًا وإداريًا وسياسيًا، ويتحول إلى نوع من التخدير البطيء ﻷهالي دمشق عاصمة النظام، المعروفين منذ القدم بقلة ثوراتهم على الحكّام وإيثارهم تجارتهم ومصالحهم وهدوء بلادهم على كل حراك.
الريف الدمشقي مثلًا لم يعرف إشارات المرور، كما أن الجسور والأنفاق وأنفاق المشاة غير موجودة في محافظات أخرى سوى دمشق، المؤسسات الحكومية في كل المحافظات والأرياف “شوربة” حقيقية، والرشوة فيها علنًا جهارًا نهارًا دون رقيب أو محاسب، بينما يحذّرك الجميع من مغبة الرشوة علنًا في دمشق، الأسواق في دمشق لا تعرف انقطاع بضاعة أو سلعة، الأسعار فيها هي الأقرب للمقبول -اليوم وفي الأمس-.
وقطاع التعليم بمفرده كفيل بإبراز هذه التفرقة الطبقية بين دمشق وبقية المحافظات، فالمدارس فيها توازي المدارس الخاصة في سواها، نظامًا ومناهج والتزامًا، لا يمكن لك أن تدرّس في مدارس دمشق ما لم تكن مجازًا بذات الاختصاص ويعتبر تدريسك فيها امتيازًا يزيّن سيرتك الذاتية، بينما يمكن لك أن تستلم تدريس مادة علمية بشهادة بكالوريا أدبي مثلًا في مدارس المحافظات والأرياف؛ الجامعات أيضًا، يمكن لك بجولة استطلاعية على جامعات تشرين، البعث، حلب، ودمشق، أن تشعر بالفوارق الجوهرية ومدى تفوق هذه الأخيرة على كل ما سبق، عمرانيًا وإداريًا وعلميًا.
هذا الاهتمام واضح أيضًا إعلاميًا، فاللهجة المحكية في 99% من الدراما السورية هي اللهجة الشامية، التصوير في شوارع وبيوت الشام، بنمط حياة يوحي بأنها القاعدة والأساس؛ كل هذه الظواهر أفرزت أن تكون الهويّة الدمشقية هي امتياز كبير لحاملها، بطبقيّة تعززت مع الثورة ومع محاولات الأسد لجعل دمشق محميّة حقيقية لسكانها.
هذا الاهتمام لم يفضِ إلى فراغ، فالأسد اشترى به رضا سكّان العاصمة، بوصفه نظامًا حضاريًا يقدم لهم معظم موارده وخدماته، ما يفسّر سلوك دمشق وأهلها تجاه الثورة السورية، وضعف مشاركتهم فيها، فالتطوير والتحسين قائم لديهم أصلًا، والحرية غدت من منسيات القواميس؛ وما الحاجة لها في ظل الرخاء والاستقرار، الأمر الذي كان ينبغي التنبّه له من قبل الثائرين المنتظرين لحراك دمشق، ولمّا تتحرك.
دمشق مقارنة بعواصم أخرى لم تحظ بأدنى اهتمام كافٍ، لكنها مقارنة بمحافظات سوريا ومدنها، حظيت -ولا تزال تحظى- باهتمام وتقديس كفيل بأن يثبّط أهلها عن كل حراك كان أو سيكون.
فهل يمكننا أن نعتبر دمشق، مدينة الأسد الفاضلة؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :