منصور العمري
يحظر القانون السوري أي تغطية إعلامية لكل ما يتعلق بالجيش والقوات المسلحة، وهو ما قد يفهمه البعض أنه حماية لأسرار الدولة، لكن هذا الحظر انحطّ بالجيش لأدنى المستويات الأخلاقية، ونشر الجرائم كقواعد عرفية غلبت قوانين الجيش النظرية، وانتشرت فيه ثقافة الرشوة (التفييش) والنهب المنظم (التعفيش) لعقود طويلة، لتصبح إحدى عقائد “الجيش العربي السوري”، وأحد الدوافع للانخراط في صفوفه.
“التفييش”
تعني مفردة “التفييش” دفع العسكري مبلغًا ماليًا مقابل تغيبه عن الخدمة العسكرية، ويتراوح التفييش بين مبلغ مالي أو هدية مقابل إجازة 24 ساعة أو ليلية، وبين مبلغ شهري مقابل التغيب الدائم.
اشتهر مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري السابق، الذي وطّد أركان نظام الأسد، وترأس الجيش 32 عامًا، بأنه من روّاد التفييش والتعفيش في سوريا. انتشر بين السوريين أن من يستطيع الوصول إلى طلاس ودفع المبلغ الشهري المناسب يحصل حتى على هويته المدنية، وهو ما يشكل حماية كلية له من دوريات الشرطة العسكرية، بحيث ينفي أنه عسكري، وأن من أراد استملاك أراض في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا عليه الوصول إلى طلاس ليبيعه أراضي الدولة.
للتفييش أصوله في جيش طلاس، فيحق للملازم تفييش شخصين، وللملازم الأول ثلاثة، لتصل إلى العقيد بتفييش نحو 15 شخصًا، أي سرية بأكملها. أما الضباط الأمراء من العميد حتى العماد فتصبح شكل سرقاته أكبر، حسب منصبه، ومسؤولياته في عقود الإطعام أو التوريد الداخلي أو الخارجي للسلاح وغيره. شكّل هذا العمل واردًا ضخمًا لضباط الجيش بما لا يُقارن بالراتب الضئيل الذي يتقاضونه.
“التعفيش” أو النهب
أما التعفيش كمبدأ أساسي في دليل “الجيش العربي السوري”، فيبدأ من العرف السائد بين العسكر “حلال عالشاطر”، أي أن من يستطيع سرقة علبة سردين من زميله فهو يستحقها، ويلقى اللوم على الضحية لعدم حفاظه على أشيائه.
أظهر “الجيش العربي السوري” التزامًا حقيقيًا بقواعده العرفية خلال حربه على مواطنيه، ومارس التعفيش بشكل منهجي، ولم يتوانَ عن نهب أي شيء حتى حنفيات المغاسل وسيراميك الجدران، منذ بداية حملاته ضد السوريين مع بدء الثورة السورية. اقتدت بهذا الجيش أيضًا أطراف أخرى في الحرب السورية، في مناطق مثل عفرين ومناطق سوريا الشرقية، وادعى عدد من هذه الأطراف أن التعفيش كان حالات فردية وأنه سيتم محاسبة مرتكبيه، باستثناء “الجيش العربي السوري” الذي يبدو أنه يمعن أكثر في ارتكاب هذه الجريمة وبشكل علني وصريح، دون أي محاسبة.
يكمن التناقض الصارخ لجريمة التعفيش بأنها محظورة في القانون السوري، وتعتبر جريمة يجب معاقبتها. حظر النهب بحد ذاته هو تطبيق محدد للمبدأ العام للقانون الذي يحظر السرقة. هذا الحظر موجود في التشريعات الجنائية الوطنية في جميع أنحاء العالم. عادة ما يعاقب على النهب بموجب القانون العسكري أو قانون العقوبات العام. لا يوجد قانون وضعي أو عرفي أخلاقي يبيح هذه الجرائم، ورغم ذلك يرتكبها “الجيش العربي السوري” بشكل ممنهج.
“التعفيش” أو النهب في القانون الدولي
يعرف النهب قانونًا بأنه الاستيلاء القسري للجيش المهاجم أو المنتصر على ممتلكات العدو.
يحظر القانون الدولي النهب (التعفيش) في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية على حد سواء، ويعتبر هذا الحظر قاعدة قديمة في “القانون الدولي العرفي” وفي قانون ليبر وإعلان بروكسل ودليل أكسفورد. كما تحظراتفاقيات لاهاي النهب في جميع الظروف. ورد في تقرير لجنة المسؤولية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الأولى، أن النهب جريمة حرب، وكذلك في ميثاق المحكمة العسكرية الدولية (نورمبرغ) الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن “نهب مدينة أو مكان، حتى في أثناء الاعتداء عليه” يشكل جريمة حرب بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
تتحمل قيادة الجيش مسؤولية هذه الجريمة وعليها إصدار أوامر صارمة لمنع جميع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي والإنساني، بما فيه النهب.
الجرائم السابقة للتعفيش
ما يزيد من فظاعة هذه الجريمة، هو أنها تأتي تتويجًا لمجموعة من جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش وحلفاؤه بمسؤولية كاملة للقائد العام للجش والقوات المسلحة بشار الأسد، وبدعم ومشاركة من القوات الروسية والإيرانية و”حزب الله” اللبناني. جميع هذه الأطراف شاركت في حصار المدنيين وتجويعهم كوسيلة حرب، للضغط عليهم لتسليم مناطقهم، وإخراجهم منها في تهجير ممنهج، ثم نهب ممتلكاتهم.
تنطلق مظاهرة في حي ما، ثم تداهمه ليلًا قوات الجيش وتنفذ حملات اعتقال عشوائي وتعسفي وتنكل بالعائلات، وهي جرائم حرب، ثم يأتي القصف العشوائي كجريمة حرب بعد محاولة الأهالي الدفاع عن أنفسهم، ليقتل المدنيين ويدمر البنى التحتية والأعيان مدنية، كالمشافي والمدارس، كجرائم حرب، تمهيدًا للسيطرة البرية. يحاول الجيش اقتحام هذه المناطق والسيطرة عليها فيصمد الأهالي ويصدونه، ليلجأ الجيش إلى الحصار والتجويع كجريمة حرب، والقصف العشوائي واستهداف المدنيين والأعيان المدنية بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها المحظورة كالكيماوية والعنقودية والحارقة وغيرها، وجميعها جرائم حرب. يدمر الجيش جميع البنى التحتية والمشافي ويمنع المساعدات الغذائية، إلى أن يفرض ما يسميه “المصالحة” تحت النار، ويرغم الآخرين على الخروج من بيوتهم ومناطقهم في جريمة حرب تسمى التهجير. هنا يطلق قادة الجيش عناصرهم ليرتكبوا جريمة الحرب الأخيرة في سلسلة الجرائم هذه وهي التعفيش، لكن الأمر لا ينتهي، بل يبدأ التعفيش الحكومي الأوسع، فيشرّع بشار الأسد بمرسومه رقم 10 لعام 2018، سرقة الأراضي الخاصة، تحت شعار التخطيط لإعادة الإعمار، وهو ما سيزيل الأدلة على جرائم الحرب السابقة، وينزع أداة أساسية للتحقيق في هذه الجرائم، لتصبح العدالة في سوريا ضربًا من المستحيل.