حليب سوريا ولبن غزة
حذام زهور عدي
وصلت أصوات إلى عددٍ من المثقفين والسياسيين السوريين بعد تفجر الثورة عام 2011، تُحذرهم من الاستمرار فيها لأن معلوماتهم أن الأوساط الدولية وتحت القيادة الأمريكية ستلعب بها لتحيل الأمر في النهاية إلى تقسيم البلد كما رسمته الدوائر ذات المصالح في التقسيم، والحقيقة أن معظم النخبة السورية لم تكن بعيدة عن هذا التصور، ولذا حاولت بوسائل مختلفة أن تُقنع قيادة النظام الأسدي بإصلاح حقيقي يُجنب البلاد والعباد مثل ذلك التشرذم للوطن، وقد وثّق المناضلون محاولاتهم تلك من خلال المؤتمرات العلنية والمداولات غير العلنية ومن خلال المقابلات التي أجراها عدد من تلك النخبة مع رئيس النظام، بمن فيهم بعض الموالين الذين لهم دور غير هامشي، طالبين منه ذلك الإصلاح والابتعاد عن الحلول الأمنية والعسكرية حفاظًا على الوطن من الانهيار، لكن لم يكن بإمكان تلك النخبة إيقاف التفجر الاجتماعي المبرر، ولم تكن بنية النظام مع الهيمنة الإيرانية قابلة لأي إصلاح.
ليس في مقالٍ مجالٌ للعودة إلى موضوع الثورة السورية وتحليل أسباب النتائج التي وصلت إليها، فذلك حديث يطول، كُتبت حوله آلاف الصفحات وستُكتب آلافٌ أخرى، وطُرحت وجهات نظرٍ متنوعة ومختلفة، لكنْ -في النهاية- لكل أمرٍ مماثل أسباب متعددة، وبالوقت ذاته، فإن سببًا واحدًا يتفوق على غيره بالتأثير، بمعنى أن هذا السبب لو تغير باتجاه إيجابي كان من الممكن تجاوز كثير من السلبيات الأخرى والعكس صحيح، وفي حال الثورة السورية كان عامل المجتمع الدولي كله بتنوعه الاحتلالي والصامت، الثابت والمتغير، الذي دفع نحو التورط العسكري وتجاهل تدخلات ملالي إيران وحزب الله وغيره من الميليشيات وانتظر نمو التشكيلات الإرهابية لتكون شماعته المفضلة. كل ذلك كان العتلة الأساسية التي فجرت سلبيات وتناقضات ونزاعات وألعابًا، ظن النظام الأسدي أنه قابض عليها، وتحت سيطرته، ولم يعِ أو أنه وعى دوره البائس فيها، وأنه لم يكن أكثر من أداة وظفت لتمزيق الوطن وتحطيمه.
في غزة اليوم أمر مشابه من نواح متعددة، مع وضع جغرافي أشدّ تعقيدًا ينذر بالأهوال، بالرغم من الوضع الشعبي الدولي المتعاطف نسبيًا أكثر مما كان للسوريين، لأسبابٍ ميزت الوضع السوري، كثقل التهجير واللجوء والتداخل المفتعل مع الإرهاب وكون السلطة المعادية لا تزال سلطة محسوبة على السوريين أنفسهم، ومع تلك الفروق، فلا بد للغزاوزة من رؤية المشهد السياسي العالمي والإقليمي والمحلي والظروف التي مرت بها الثورة الفلسطينية والنتائج التي حصدتها حتى الآن، ليُدركوا موضوعيًا مواقع أقدامهم.
غزة منطقة محصورة ومحاصرة، هي جيب ساحلي صغير، كان جزءًا من فلسطين التاريخية، ينوء اليوم بثقل سكانه، إذ أضيف إلى كثافته السكانية المعروفة عنه، كثير من مهجري جنوب فلسطين بعد النكبة، وأصبح العدد أكبر بكثير من أن تكفي أرضه إنتاج ما يكفيهم من عوامل الحياة، أو خلق ظروف عملٍ تعالج البطالة المنتشرة بنسبة عالية بينهم، وهو محاصر من جهاته كلها، فالجنوب المصري موصد أبوابه في وجههم، والأردن شرقًا بالرغم من صحراء النقب المحتلة التي تفصله عنه، لم تكن أبوابه أكثر تساهلًا من النظام المصري، والبحر المحروس إسرائيليًا بدقة غربًا، واتصاله بشماله الفلسطيني دونه قطع الرقاب، إن الوضع الجغرافي- السكاني، وعلاقته مع ما حوله، هو وضعُ تفجرٍ دائمٍ بامتياز.
أما الوضع السياسي فمنذ حصلت حركة حماس على السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، نسيت الديمقراطية وتمترست فيه بحجة الاختلاف السياسي مع سلطة الضفة، التي تمترست هي الأخرى بالضفة، وهكذا كرست السلطتان التقسيم لبقعة الأرض الصغيرة التي كانت المكسب الوحيد من اتفاقية وارسو، تلك الاتفاقية التي عارضها كثير من الفلسطينيين والتي استطاع الإسرائيليون تدريجيًا محو جميع إيجابياتها، موظفين هذا الانقسام أفضل توظيف لمصالح تآكل الأرض الفلسطينية.
ذلك الوضع جعل سلطة حماس بالضرورة محتاجة دومًا للمعونة المادية بالدرجة الأولى والمعونات الأخرى المختلفة، وبالرغم من المحاولات الإقليمية العربية المتعددة لرأب الصدع، ولقاءات المصالحات التي تمت في القاهرة والرياض والدوحة، إلا أن يد ملالي إيران -كما يبدو- كانت الأكثر سخاء ولا سيما بالسلاح، وخاصة بعدما صنعت فصائل تتبعها تمامًا، وتنشق حتى عن حماس كالجهاد وغيرها، تشتري قادتها دعمًا بأشكال مختلفة، والشعار الستار دومًا كلمات رنانة عن المقاومة والممانعة، تلك الفصائل والحركات، هي أذرعتها الضاربة يوم تحتاجها المصالح الإيرانية، تغيب أمام إسرائيل وتظهر ملعلعة أمام من يخالفها من الشعوب العربية، وللغزاويين في مآسي الشعب السوري على أيدي الإيرانيين العبر.
في المشهد الأبعد.. ترامب وإسرائيل، واللون الواضح بينهما، حمرة الغزل وحمرة الدماء، فلها أن تفعل ما تشاء وله استمرار تأييد اللوبي الصهيوني وتأييد كبار أصحاب البنوك والأموال ومصانع السلاح الثقيل والخفيف، والنخبة الإعلامية المؤثرة، وكله ثقة بأن أوروبا والناتو لن يستطيعوا اتخاذ موقف جدي مؤثر في الحالة الفلسطينية أكثر مما فعلوه بالحالة السورية، أما بوتين فسوريا تكفيه نفوذًا ولن يُعنى بموقف معادٍ للصهيونية العالمية.
باختصار شديد ذلك هو المشهد الدولي، وكما يوحي هو مشهد لن يستطيع أبناء غزة أن يحصلوا من خلاله إلا ما حصّله الشعب السوري، مزيدًا من الدماء…لكن الأسوأ أيضًا أن الموقف الإيراني الهش تجاه انسحاب ترامب من الاتفاق النووي يجعلهم يدفعون الذراع الجهادية الغزاوية لمزيدٍ من الدماء للضغط على إسرائيل، والخوف عندئذٍ من عملية تهجير ممنهجة خططت إسرائيل لها وساعدتها حماقة الملالي واستكبارهم وإجرامهم بحق الشعوب العربية، لا سيما أن تجربة التهجير السوري ما زالت مستمرة بنجاح.
لماذا لم تَسْعَ حماس إلى تنفيذ المصالحة التي أوشكت على الاستكمال مع سلطة الضفة، بالرغم من كل ما تتصف تلك السلطة به من أوصاف قد لا تكون بعيدة بمسافة كبيرة عن سلطة حماس؟ لماذا لم تؤسس لوضع داخلي متين قبل الشروع بإلقاء الأجساد الفلسطينية في مصائد الدماء؟ ما الذي تنتظره من نتائج؟ أهو تذكير بالحق الفلسطيني المغتصب؟ وأسمع غير مسمع، أم تنتظر نوعًا من المساومة تحصل فيه على تملك القطاع تحت وصاية السليماني، مجرم سوريا والعراق؟ أم تنتظر المساومات الإسرائيلية- الإيرانية لعل بقايا المرق يُنعشها قليلًا؟ هل حسبت حساب التهجير، وخاصة بعد إعلان نتنياهو إسرائيل دولة اليهود الأبدية؟
إن دماء الشباب الفلسطيني أغلى بما لا يوصف مما تنتظره حماس، لقد وضع ملالي إيران الفلسطينيين والعرب أمام المعادلة المستحيلة التي وضعوا فيها الشعب السوري، يتألمون لعذابات إخوتهم بالوطن ويتمنون تأييد نضالاتهم لكن يد الملالي القذرة والوضع الدولي المعقد والمحبط، يجعل الحذر شمسًا تسلط على مواقع الأقدام لتكون الرؤية أكثر وضوحًا.
بالطبع للشعب الفلسطيني كامل الحق بانتفاضته، الحق الوطني والإنساني، كما لشعوب العالم كله، لقد عانى ذلك الشعب من ظلم هو ظلمات إنسانية داكنة، ولكن على قادته قراءة الوقائع بدقة ليس من أجل أن يتراجعوا عن حقهم الذي كفلته شرائع العالم كله وتعرض للاغتصاب من ذلك العالم نفسه، ولكن كي لا يكونوا أداة إيرانية مجرمة يوظفها الملالي في زيادة حلكة ما يحيط بهم من ظلم.
عند الأمهات السوريات مثل يقول: من اكتوى بحرقة الحليب ينفخ على اللبن، ولقد اكتوى السوريون بحرقة الحليب الدولي والإيراني ولذا ينفخون على لبن غزة أملًا في إنقاذهم من براثن خبث ملالي إيران وإسرائيل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :