تراجع
شركات الأدوية تحوّل الأطباء إلى “تجّار”
عنب بلدي – نور عبد النور
اضطرت السيدة رانيا للانتظار عامًا كاملًا قبل أن تلتقي متبرعًا بإحدى كليتيه، لينقذ حياتها مقابل مبلغ من المال، تصفه بـ “الكبير”، أضيف إلى مبالغ أخرى دفعتها سابقًا لقاء جلسات غسل الكلى وما يترتب عليها من تكاليف مشافٍ وسفر متكرر من حلب إلى دمشق.
تقول رانيا (اسم مستعار) “اعتدت أن أسافر شهريًا برفقة أحد أفراد عائلتي إلى مدينة دمشق لإجراء جلسات الغسيل الكلوي بعد أن أصبحت هذه الجلسات غير مضمونة النتائج في حلب. اضطررنا لاستئجار منزل في العاصمة نظرًا لصعوبة الإقامة عند الأقارب، وكانت مشقة السفر وضيق الأوضاع المادية تزيد حالتي سوءًا، كما بدأت أفقد الأمل من إيجاد متبرع بالكلية”.
وبعد عام من البحث، التقى أقارب رانيا بعسكري تابع لقوات النظام السوري يرغب ببيع كليته، وبعد إجراء الفحوصات اللازمة واختبار إمكانية توافق الكلية الجديدة مع جسد السيدة الأربعينية، تمت العملية في أحد مشافي دمشق الخاصة، العام الماضي.
تضيف رانيا (رفضت ذكر اسمها الحقيقي لمخاوف أمنية) لعنب بلدي، “تحسنت صحتي بشكل كبير عقب إجراء العملية، ورغم ذلك أضطر إلى السفر مجددًا لإجراء بعض المعاينات، بعد أن تراجع عدد الأطباء المتخصصين في مدينة حلب بشكل كبير”.
وتتخوف رانيا من احتمال حدوث انتكاسة في حالتها الصحية، في ظل صعوبة “إيجاد طبيب يسعف حالتها في حلب”، وفق وصفها، لافتةً إلى أن معاناتها تنسحب على الكثير من المرضى في المدينة، الذين باتوا يشكون شحّ الأطباء وتعقّد ظروف الطبابة.
وكان عدد الأطباء في مدينة حلب وصل عام 2010 إلى نحو 2000، نحو ثلثهم من الطبيبات، وفق إحصائية منشورة على موقع وزارة الصحة في حكومة النظام، وهو أكبر عدد للأطباء بين المحافظات السورية، لكن الوزارة لم تنشر إحصائيات أخرى بعد اندلاع الثورة، إذ شهدت الأعوام التالية تراجعًا حادًا في أعداد الأطباء السوريين لم يتم إحصاؤه على مستوى المحافظة.
الحالة ازدادت سوءًا بعد أن سيطرت قوات النظام على أحياء حلب الشرقية، إذ كان الأطباء قبل ذلك يتوزعون على طرفي المدينة، وبوقوع الأحياء الشرقية في قبضة النظام غادر جميع الأطباء ضمن حافلات التهجير، فيما عاد جزء من الأهالي إلى المدينة، وأصبح من المفترض أن يغطي الأطباء الذين بقوا في الأحياء الشرقية احتياجات المدينة الطبية بالكامل.
عنب بلدي تواصلت مع مجموعة من المصادر الطبية في مدينة حلب، للحديث عن الأزمة التي أصابت القطاع الصحي، وأسبابها وتداعياتها، لكن أغلب تلك المصادر رفضت الكشف عن أسمائها الحقيقية لاعتبارات أمنية.
اختفاء شبه كامل لأطباء الأوعية والمفاصل
لا تنفي السيدة رانيا وجود بعض المتخصصين بأمراض الكلى في مدينة حلب، لكن تجربتها مع الفشل الكلوي والأطباء خلال العامين الماضيين دفعتها للقول، “كنت أجد صعوبة في الوصول إلى طبيب جيد، وحين وجدت طبيبًا يشرف على حالتي لم يكن المشفى الذي أجري فيه جلسات الغسيل يلبي احتياجاتي بشكل دائم، إذ كانت الأجهزة المخصصة تتوقف بشكل مستمر، ما دفعني للسفر إلى دمشق”.
وتضيف رانيا، “واجهت مشكلة أيضًا في الاعتماد على أطباء آخرين لعلاج آلام الظهر التي واجهتني إثر الانتكاس في الكلى”.
عنب بلدي تواصلت مع اختصاصية في التحاليل المخبرية، مطلعة على الحالة الطبية في حلب، وأشارت إلى أن المدينة تشهد تناقصًا كبيرًا في أعداد الأطباء المتخصصين، الأمر الذي يسبب حالة إرباك للمرضى من السكان الذين يبقون في حالة بحث عن طبيب جيّد.
وتضيف الاختصاصية التي رفضت الكشف عن اسمها لأسباب أمنية، “غالبًا ما يعود المريض ذاته إلى المخبر لإجراء تحاليل طبية مختلفة بشكل كامل عن تحاليل أجراها سابقًا، بحسب وجهة نظر كل طبيب يزوره، وهو ما يجعل المرضى في حالة دائمة من القلق”.
الاختصاصية أشارت إلى أن أمراضًا شائعة بات بعض الأطباء عاجزين عن تشخيصها، وتضرب مثالًا على ذلك، “منذ مدة أعاد مريض تحاليله ثلاث مرات بناء على طلب طبيب الداخلية، بعد أن عانى وهنًا عامًا وارتفاعًا في درجات الحرارة، شككت وزملائي من الأعراض التي تحدث عنها أنه مصاب بالتهاب الكبد الفيروسي، لكن التحاليل المطلوبة لم تشمل التحليل الخاص بالمرض”، وتتابع “عاد المريض بعد فترة وأجرى تحليل التهاب الكبد (أبو صفار) بناء على طلب طبيب مختلف، لنجد أنه مصاب بالفيروس فعلًا”.
وتعلق الاختصاصية المخبرية “ذهلنا كيف لم يشخص الطبيب المرض، خاصة بعد أن انتشر بشكل كبير خلال الفترة الماضية في مدينة حلب نتيجة الاعتماد على الوجبات السريعة، واستخدام لحوم مشكوك بصلاحيتها في إعداد تلك الوجبات”.
الصيدلانية ميساء (اسم مستعار)، أشارت أيضًا إلى أن المدينة تشهد “اختفاءً كاملًا” لأطباء الأوعية ذوي السمعة الجيدة طبيًا، وهو أمرٌ بالغ الخطورة، إذ تعتبر أمراض الشرايين والأوعية الدموية من أكثر الأمراض انتشارًا، وجراحات القلب هي من أكثر الجراحات شيوعًا.
ووفق إحصائيات رسمية صادرة عن الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا عام 2016، فإن “نسبة الوفيات الطبيعية عبر الجلطات القلبية أو الدماغية ارتفعت إلى نحو 70% من مجمل الوفيات في البلاد، بعدما كانت لا تتجاوز قبل الأزمة 40%”.
وتشير الصيدلانية إلى أن طب العظام والمفاصل يواجه أزمة متخصصين كبيرة، إذ يحتكر هذا المجال بشكل شبه كامل خريجون جدد، وغير ذوي خبرة كبيرة. أما بالنسبة لباقي التخصصات، تشير الصيدلانية إلى أن الوضع “جيد نسبيًا” فيما يخص عدد الأطباء وخبرتهم.
شركات الأدوية شريكة بالفشل
خلق تراجع الإنتاج الدوائي في سوريا، كمًا ونوعًا، عقب الثورة، أزمة منافسة بين الشركات القليلة العاملة، وانعكست تلك المنافسة على عمل الأطباء، وفق الصيدلانية ميساء، التي أكدت لعنب بلدي أن بعض الأطباء باتوا يصفون الدواء حسب أهواء الشركات، ما زاد من تضرر القطاع الصحي.
وتؤكّد الصيدلانية أنّ بعض الأطباء “تحوّلوا إلى تجار بشكل أو بآخر، ويستجيبون للمطالب التسويقية لشركات الأدوية التي تغرقهم بالأموال والهدايا، ما يدفعهم لوصف منتجات دوائية غير فعالة، الأمر الذي أتاحه غياب المعايير الدقيقة في التصنيع الدوائي وضعف الرقابة على هذا القطاع”.
فعلى سبيل المثال “تنتج شركتا آسيا وهيومن دواء ريتّان المخصص لمعالجة حب الشباب، ووفق المعايير الصيدلانية فإن منتج شركة آسيا أكثر فعالية”، بحسب الصيدلانية، التي تضيف، “توقف إنتاج شركة آسيا لفترة وبعدما طُرح دواؤها من جديد في الأسواق استمرّ الأطباء بوصف المنتج الخاص بشركة هيومن، وهو أمر ملاحظ بكثافة لدى الصيادلة”.
وكانت المعامل الدوائية في مدينة حلب سيطرت قبل الثورة على 55% من إجمالي الإنتاج الدوائي في سوريا، لكن أغلب المعامل في المحافظة خرجت عن العمل أو توقفت لفترات طويلة، بينما رأت شركات أخرى النور، ودخلت الأدوية المستوردة على خط المنافسة.
أخطاء طبية ضحاياها “بالجملة”.. والمشافي دون المستوى
نتيجة تراجع عدد الأطباء، تحوّل الكثير من السكان إلى الاعتماد على الخدمات التي توفّرها المشافي الحكومية، وهي “مشفى الجامعة” و”مشفى الرازي” و”مشفى ابن رشد” و”مشفى ابن خلدون للأمراض العصبية والعقلية”، بينما يزيد عدد المشافي الخاصة العاملة في المدينة على 20.
ويشير الطبيب محمد (اسم مستعار)، وهو طبيب مخبري، إلى أن أغلب هذه المشافي باتت دون المستويات المطلوبة نتيجة تراجع عدد الأطباء، واعتمادها بشكل شبه كامل على المتدربين من طلاب كلية الطب.
ويضيف الطبيب لعنب بلدي، “خلال سنوات الأزمة تعطلت أغلب أجهزة التخطيط الموجودة في مشافي المدينة نتيجة غياب التيار الكهربائي، إضافة إلى توقف أغلب غرف العناية المشددة في المشافي الحكومية، وهو ما كان يدفع أغلب السكان للاعتماد على المشافي الخاصة”.
ورصدت وسائل إعلام محلية ما وصفته بـ “الكوارث الطبية” على يد أطباء في بعض مشافي حلب، إذ ضجت وسائل التواصل الاجتماعي في كانون الثاني الماضي بقصة الفتاة التي أجرت علمية جراحية ناجحة في الغدة، لكنها توفيت عقب العملية بسبب الإهمال في مشفى الكلمة الخاص.
وفي شباط الماضي أيضًا، توفي طفل في عمر عامين، إثر إجراء عملية تنظير بسيطة في الصدر، أفضت إلى ثقب القصبتين الهوائيتين “بالخطأ”.
كما أشار الطبيب محمد لعنب بلدي إلى أن مشفى “الشهباء التخصصي” شهد مؤخرًا خطأً طبيًا فادحًا، خلال قيام طبيبة نسائية بإجراء عملية تجريف رحم، وهي من أكثر العلميات النسائية شيوعًا، إذ تضرر جزء من الأمعاء عن طريق الخطأ، ما وضع المريضة في حالة صحية خطرة، خضعت على إثرها لعمليات جراحية عدة.
الأطباء سافروا.. والمرضى كذلك
وفق تصريحات لنقيب أطباء سوريا، عبد القادر حسن، فإن عدد الأطباء في سوريا تراجع من 33 ألفًا إلى 20 ألفًا، إذ أوضح أن نقابة الأطباء فصلت نحو 1150 طبيبًا بتهمة “التعامل مع مسلحي المعارضة”، إضافة إلى فصل أكثر من ألف طبيب “هاجروا بوسائل غير نظامية، ولم يسدّدوا رسوم النقابة”. بينما أكد أنّ عدد الأطباء الذين غادروا البلاد بطرق نظامية عبر معابر النظام بلغ خمسة آلاف طبيب.
ويضاف ذلك العدد إلى آلاف الأطباء السوريين الذين قضوا أو اعتقلوا خلال السنوات السبع الماضية.
وكانت منظمة “أطباء بلا حدود” قالت عام 2015 إن عدد الأطباء في حلب لا يتجاوز 100، في إشارة إلى الأطباء والطبيبات الذين كانوا موجودين في الأحياء الشرقية، وعقب سيطرة النظام على كامل المدينة نهاية عام 2016، غادر الأطباء الذين كانوا على رأس عملهم المدينة أيضًا.
تناقص عدد الأطباء في حلب دفع المواطنين أيضًا إلى البحث عن بدائل طبيّة، إذ تمّ الاعتماد خلال الأعوام الماضية على وصفات الصيادلة، وتشخيص الأطباء حديثي التخرّج.
بينما بدا السفر هو الحل الأمثل، ومدينة دمشق هي الوجهة الأفضل، ووفق المريضة رانيا التي سردت قصّتها لعنب بلدي، فإن العناية الطبية التي لاقتها في دمشق أفضل نسبيًا، لكنها أيضًا دون المستوى المطلوب.
وتضيف، “لو كانت الأوضاع المادية أفضل بالنسبة لعائلتنا، لما ترددت في السفر إلى بيروت وإجراء العملية هناك، لكنها تكلّف مبالغ باهظة، ولا أظن أن أحدًا في سوريا قادرٌ على دفعها في الوقت الحالي”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :