هل هو الشرق الأوسط الجديد؟
بين من يدّعي أن مشروع الشرق الأوسط الجديد جرى إحباطه وكسره، عبر كسر حلقة تغيير الأوضاع في سورية، وبين من يعتقد أن الشرق الأوسط غادر مواقعه القديمة من دون تحديد اتجاهاته المقبلة، جرت متغيرات كثيرة، جعلت من الرؤى والتصورات الخاصة بالمتنازعين الشرق أوسطيين، مجرد أفكار رغبوية، أو منحازة لأوضاع بعينها أكثر من قدرتها على قراءة الواقع واستشراف مآلاته.
ينطلق أصحاب نظرية هزيمة مشروع الشرق الأوسط من اعتقادهم أنهم هندسوا المنطقة بما يتناسب مع مصالحهم، وأنهم قاموا بترتيب تفاصيلها باحترافية دقيقة لتصل إلى هذا المكان، بعد أن هندسوا الجغرافيا والديموغرافيا، وصنعوا التحالفات السياسية اللازمة «التحالف الإيراني –الروسي – الصيني»، والأدوات التشغيلية، «الميليشيات الطائفية»، وقاموا بإعادة صياغة القيم السياسية، «المقاومة والممانعة»، وعلى رغم أن كل ذلك يعني أننا أمام مشهد شرق أوسطي جديد في النهاية، إلا أنه وفق تفسيرهم فإنهم كرسوا واقع الشرق الأوسط ولم يتغير وفق ما بشَرت به، يوماً ما، أميركا، الشرق الأوسط الديموقراطي والحداثي، ويمكن وصف هذا الاتجاه بالاتجاه المحافظ، الذي يبتغي أصحابه من وراءه الحفاظ على الأوضاع القائمة بوصفهم أصحاب السلطة والنفوذ.
أما أصحاب نظرية حلول الشرق الأوسط الجديد، فهم يعتقدون أن المشهد بعد عام 2011 تغيّر كلية ولا يصح معه التوصيف القديم لعدم قدرته على تفسير المشهد الحالي، وبالإضافة إلى استحالة عودة عجلة الأمور إلى سابق عهدها، فإن الواقع الجديد سيلد وقائع أخرى تهيّء صورة المشهد، في مقبل الأيام، لصورة الشرق الأوسط الجديد الذي ولد من رحم تلك التحولات الهائلة التي تعمّدت بدماء مئات الآلاف، الذين لن يقبل أحد أن تذهب دماؤهم هدراً، ووفق تصور هؤلاء أنهم صنعوا دينامية التغيير والتي لن تتوقف قبل أن توصلهم إلى المكان الذي تصوروه، وأصحاب هذه النظرة ثوريون لأنهم يريدون تغيير الأوضاع القديمة بأوضاع جديدة تتناسب مع مصالحهم.
تؤشر هذه التصوّرات إلى طبيعة الصراع الحاصل في المنطقة والقوى التي تقف وراءه، والأهداف التي يبتغي كل هدف تحقيقها، وإن كان كلا الطرفين يميل إلى المبالغة لدرجة يذهب معها إلى رسم مسار افتراضي تنضبط التطورات بداخله بعيداً من السياقات الحقيقية التي تجري بها الأحداث وتشكّل الوقائع بطريقة مغايرة، وبناء على ديناميات أكثر تنوعاً وثراء من تلك التي يرتكز عليها أصحاب الرؤى السابقة. والسبب في ذلك أن المتغيرات الحاصلة، ليست من صناعة أيدي أصحاب الرؤى السابقة، بقدر ما هي نتاج ظروف عديدة، ومساهمة أطراف أخرى، ولكونهم لا يستطيعون التحكم بالظروف لجعل هذه المتغيرات تشتغل في مصلحتهم، كما أن تأثيرهم في الأطراف، وبخاصة الخارجية، متدن وضعيف، فإن تحكّمهم بالمآلات النهائية للتطورات غير مضمون وادعاءهم بالتالي بأن اتجاهات الأحداث تسير وفق ما هو مرسوم لها من قبلهم غير دقيق.
لكن ذلك كله لا ينفي حقيقة أن الأمور في الشرق الأوسط لم ولن تبقى كما كانت، وبعيداً ممّن يستطيع جني ثمار التغيرات وتجيير السياقات لمصلحته، فإن الأمور تغيرت، أو على الأقل تحركت من الحالة السابقة إلى حالة مختلفة، وثمة مؤشرات عدة تؤشر إلى هذا التغير، وتدعم الرأي القائل إن الشرق الأوسط على طريق التغيير، وإن لم تتضح صورة هذا التغيير بعد، أو تستقر على مشهد معين:
– عدم القدرة على التنبؤ: لزمن طويل كان يمكن توقّع الأحداث في المنطقة، وكانت الأمور قد وصلت إلى حالة من السكون والرتابة، أنظمة مستبدة وشعوب خاضعة ونخب مهمشة، وفي ظل هذا الوضع لم يكن يصدر عن هذا الشرق سوى مسيرات تأييد أو بيعات جديدة للحكام، وكانت هذه الفعاليات تأتي لتكريس حالة السكون والتأكيد عليها بين الفترة والأخرى، وهو ما خلق صورة نمطية عن السياسة والاجتماع في المنطقة، جعلت المهتمين بشؤونها، وبخاصة علماء السياسة والاجتماع الغربيين، يقدّرون استحالة حصول تحولات عميقة وفارقة، على الأقل في المديين القريب والمتوسط.
تغير الوضع تماماً بعد 2011، ولم تعد ممكنة المغامرة بإصدار توقعات نمطية، ذلك أن الأحداث والتطورات سائلة وجارية لدرجة أن التحليل الذي تتم كتابته في الصباح قد تناقضه التغيرات في المساء، سواء على مستوى الأحداث أو الفاعلين.
– انهيار المؤسسات العسكرية والأمنية المركزية، في أكثر من بلد، وبروز تشكيلات مليشياوية، بديلة، وأحياناً رديفة، في سياق الصراع السياسي، ولا يبدو أن هذه البدائل موقتة، بل يجري مأسستها وإدماجها في الحياة العامة، بعد تبييضها وإعطائها طابعاً سياسياً، كما حصل مع الحشد الشعبي العراقي، وقبله حزب الله، ومن المنتظر تكرار التجربة في سورية.
– تشكيل الهويات القبلية والطائفية والإثنية في سياقات إقليمية متجانسة، بعيداً من قدرة الدولة الوطنية ومصالحها، ويبدو هذا المثال واضح في علاقة إيران بأتباع المذهب الشيعي في العراق ولبنان وسورية، كما يتجلى على الصعيد العرقي بمحاولات الأكراد إعادة تشكيل هويتهم في شكل مستقل عن البلدان التي انتموا إليها منذ تشكّل الدولة في منطقة الشرق الأوسط. لم يعد الشرق الأوسط كما كان، الصورة القديمة تمزقت بدرجة كبيرة، ولكن الصورة الجديدة لم تتضح بعد، وهذا مبعث التضليل الحاصل لدى الكثيرين في منطقتنا، وحتى لو لم يكتمل التغيير حتى اللحظة، فالمؤكد أن ركائز الشرق الأوسط القديم تخلخلت ولم تعد صالحة، وتأسست ركائز جديدة تناسب الهيكيلية المفترضة للشرق الأوسط الجديد.
وليس بالضرورة أن تتمظهر التغيرات الجديدة على شكل جغرافيا جديدة، ظهور دول جديدة وزوال أخرى قديمة، ذلك أن الجغرافيا إحدى صور التغيير وليست كلها، على رغم أن المنطقة باتت مهيئة لحصول مثل هذه الاحتمالات، وبخاصة في سورية والعراق.
ولعلّ اتضاح صورة الشرق الأوسط الجديد يتوقف، اليوم وبدرجة كبيرة، على تفاعلات اللاعبين الدوليين، توافقهم أو صراعاتهم، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي، والاتحاد الأوروبي الذي بدأ ينشط على خطوط التفاوض وبعض الجبهات السورية، فالغالب أن أدوار اللاعبين المحليين في هذا الإطار انتهت ولم تعد ذات تأثير مهم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :