محمد رشدي شربجي
يشيع بين السوريين وخاصة في أرياف مدينة دمشق استخدام كلمة “مشايخ الرز بالحليب”، بوصف نمط من المشايخ “في كل عرس له قرص” كما يقول المثل، تكاد خطبهم تصم الآذان من شدة الصراخ، دائمو الحضور في المأدبات والولائم، يتصدرون الصفوف في المناسبات بطبيعة الحال، وتسألهم الناس في خصوصيات حياتهم، ولديهم رأي في كل مجال، وحين المصائب يدعون الناس للسكوت والرضوخ و”تجنب الفتن”.
وقد رأينا من هؤلاء الكثير خلال ثورات الربيع العربي، وخاصة في سوريا، وهم بشكل من الأشكال إحدى أدوات الأنظمة الحاكمة للسيطرة على الشعوب، وهو سلوك راسخ لدى الحكام في التاريخ الإسلامي للأسف، منذ تحول الدين إلى أداة من أدوات الدولة على أيدي الأمويين، كان هذا التحول نتيجة الصدمة التي أحدثها غزو المدينة وقصف مكة ومقتل الحسين ومئات من أصحاب رسول الله، كانت هذه المأساة سببًا لتطوير مفهوم ولاية المتغلب ليصبح حجر الأساس في التراث السياسي السني خاصة.
ويشترك في الإيمان بمبدأ ولاية المتغلب الصوفيون والسلفيون بأنواعهم، بما فيهم السلفية الجهادية، التي تختلف عن سابقيها بالقول بفرض الخروج على الحاكم الكافر، وبهذا يقول الآخرون أيضًا، لكن الجهاديين وسّعوا دائرة الكفر حتى أدخلوا فيها جميع المسلمين، بمن فيهم أنفسهم أحيانًا. هم يشبهون في هذا المعنى الخوارج أكثر من غيرهم.
أحدثت الثورات العربية ما يشبه الصدمة في أوساط المشايخ، كما بدا أن الجماهير في لحظة تاريخية قد سبقت “علماءها” أخيرًا، وقد بدا مع بداية الربيع العربي أن هناك مراجعات فكرية قد حصلت، ولكن تبين أن هذه المراجعات هي في الحقيقة مناورة “ذكية” من الأنظمة البائدة، لتمزيق صفوف الثورة، فقد عاد هؤلاء سريعًا لوظيفتهم السابقة مع انتصار الثورات المضادة مرة أخرى.
من هؤلاء على سبيل المثال محمد العريفي الذي وقف مرة إلى جانب محمد مرسي داعيًا إلى الجهاد في سوريا، ثم هو اليوم يدعو مشاهديه لاستهلاك البخور من شركة “العربية للعود”. الآخر كان الداعية الشهير عمرو خالد الذي أخبرنا أن استهلاك “دجاج الوطنية” سيساعدنا في قيام الليل والتهجد.
من الرز بالحليب إلى البخور والدجاج دمرت مدن وسحقت مجتمعات، وفقدت أجيال حاضرها ومستقبلها، وزحفت ملايين بقوارب لا تنتهي تبتغي مكانًا كريمًا هناك في الشمال الأوروبي، أما آن لهذا أن ينتهي؟ أما آن للمشايخ أن يأخذوا مكانًا مختلفًا في المجتمع عدا المقدمة؟ في القاع مثلًا!