عنب بلدي – صبا الكاتب
“الأزمات والأمراض النفسية لدى الأطفال السوريين”، عبارة تتداولها الدراسات الصادرة عن المنظمات ومراكز الأبحاث، تسِم جيلًا كاملًا بالمرضى النفسيين، بعد حرب كانوا متضررين منها وشاهدين على أحداثها، وتركت الكثير منهم يئنون من آثارها.
لكن هذه الأبحاث والتقارير، ورغم الجزم بضرورة توافرها، تخرج بنتائج صادمة وأرقام هائلة، كدراسة هي الأكبر من نوعها منذ 2011، أعدتها منظمة “أنقذوا الطفولة”، أنذرت فيها أن الجيل القادم من السوريين، سيكبر ويعاني بأكمله من صدمات نفسية وعصبية، على اعتبار أن 89% من أطفالهم يعانون جراحًا نفسية يصعب دملها.
الدراسات في أغلبها تجرى في بيئة جديدة على السوريين، بعد أن لجأ أكثر من 5.6 ملايين منهم إلى مختلف أنحاء العالم، حسب الأرقام الأممية، ما دفع البعض للشك في مدى ملائمتها وأخذها ذلك بالاعتبار.
“دراسات المكاتب” بعيدة عن الشارع
ففي تركيا التي استقر فيها أكثر من نصف اللاجئين السوريين، أجريت دراسة في نيسان الماضي، من قبل جامعة “مرمرة” خلصت إلى أن “ستة من بين كل عشرة أطفال سوريين يعانون أمراضًا نفسية”، ما دفع بعدد من اختصاصيي الصحة النفسية والعاملين في هذا المجال إلى اعتبار البعض منها “غير واقعي”، ومنهم باسل النمرة، الذي أنهى الدراسات العليا في الإرشاد النفسي، وعمل على مدى سنوات في مجاله مع أطفال سوريين سواء في بلدهم أو في تركيا.
وأكد نمرة لعنب بلدي أن هذه الأبحاث لم تنزل إلى أطفال الشارع، لترى أن نسبة كبيرة من الأمراض والأزمات التي يعايشها الأطفال السوريون حاليًا هي نتيجة انتقالهم إلى بلد ثان اختلفت فيه منظومة البيئة والحياة والقيم والأسس عن التي عايشوها وتربوا عليها.
فمشاهد العنف والقصف التي شاهدها الأطفال في سوريا تسببت لهم يقينًا بأزمات نفسية، ورغم أن هذه الصورة القاتمة انمحت من ذاكرتهم وعقولهم بعد سنة من وجودهم في تركيا، تعرضوا لمشكلة أكبر منها، وهي اختلاف المجتمعات، وبالتالي ينبغي على الباحثين، بحسب الاختصاصي، دراسة المجتمعات الأصلية للاجئين، وعاداتهم الاجتماعية قبل إجراء أي بحث علمي.
بالأرقام.. الأزمات النفسية لدى أطفال سوريا
ذكر تقرير لمنظمة “أنقذوا الطفولة”، نتائج دراسة بعنوان “جراح غير مرئية” في آذار 2017، وقدر أن 84% من الأطفال السوريين يعانون من الضغط العصبي، وأن 81% منهم أضحوا أكثر عدوانية، فيما 71% يعانون من التبول اللاإرادي.
أما دراسة جامعة “مرمرة” التركية في نيسان 2018، فخلصت إلى أن 60% من الأطفال اللاجئين في تركيا يعانون أمراضًا نفسية نتيجة تعرضهم لصدمات في سوريا، وتتركز إصاباتهم في إجهاد ما بعد الصدمة، والاكتئاب، أما البالغون فأوضحت الدراسة أن أغلبيتهم يعايشون أمراضًا أو أزمات نفسية.
وفي تقرير منظمة “يونيسيف” بعنوان “2017 أسوأ عام على أطفال سوريا”، الصادر في آذار 2018، اعتبر أن جيلًا كاملًا من الأطفال السوريين يعانون من اضطرابات نفسية، وأكد أنه لا تبدو هناك أي بارقة أمل لتحسن أحوالهم.
وقال المدير الإقليمي للمنظمة، خيرت كابالاري، إن “أطفال سوريا يعانون من الندوب الداخلية والخارجية التي لن تزول”.
أزمات بعضها فوق بعضها
دخلت الأزمة السورية عامها الثامن، وكبر معها جيل من أطفال الحرب، الذي أضيف إلى أزماته دخوله بلاد اللجوء تزامنًا مع استقباله مرحلة المراهقة، التي يتعارف عليها طبيًا بأنها بين سن 14 و18، لكن وبعد مخلفات الحرب والمعارك في سوريا تغيرت الطبيعة الهرمونية للجسم، وأصبح النمرة يلاحظ بلوغ الأطفال سن المراهقة في تركيا في سن أصغر، وصلت عند البعض إلى 10 سنوات.
وتسبب ذلك بصراع داخلي نفسي ذي عدة أوجه لدى الأطفال، يمزج بين مرحلة الحرب وصراع المجتمعات الجديدة، وأشار الخبير إلى أن “نسبة لا تقل عن 90% من الأطفال الذين عاينهم في المدارس السورية والتركية، فاقدون للهوية الداخلية ومصابون باضطراب في الشخصية وضياعها”.
ضرورة إشراك خبراء محليين
معظم السوريين كانوا يعيشون ضمن الطبقة الاقتصادية الوسطى، لذلك كان أغلب الأطفال يعملون في فترات العطل الصيفية لاكتساب حرفة أو مهنة، غير أن العبء المادي الذي رافقهم مع موجة اللجوء، جعل كثيرًا من الأهالي يدفعون أطفالهم للعمل لإعانة آبائهم وأسرهم حتى في أيام الدوام المدرسي.
ومن خلال احتكاكه بأطفال المدارس في تركيا، لاحظ النمرة أن نسبة تفوق 60% منهم يعملون صباحًا، لينتقلوا في الظهيرة للمدرسة، ويعودون أدراجهم مجددًا بعدها حتى ساعات الليل المتأخرة إلى ورشات العمل، وتبتعد أجواء تلك الورشات كل البعد عن أوساط الطفولة بجميع تفاصيلها وأبعادها، والأسوأ من ذلك انتقال مفاهيم العمل وتعليماته إلى غيرهم من الأطفال سواء في المدرسة أو البيت.
أما تعلم لغتين بآن واحد فغاب عنه معلمون مؤهلون للتعامل مع فئة عمرية من أطفال حرب يحتاجون معاملة ولغة خاصة في الأسلوب والتعليم، ما نتج عنه تعرض العديد منهم لأزمات حادة وصلت إلى حد “التوحد”، وكل ذلك ظهر في المجتمعات المضيفة، ما دفع بالنمرة إلى توصية الدارسين بإشراك وإدماج أصحاب الاختصاص من أرض الواقع، فهم أدرى ببيئة الأطفال من جهة، وعلى احتكاك والتصاق بالأطفال ومعاناتهم من جهة أخرى.
الفرق بين الأزمة والمرض النفسييوجد فرق بين المرض النفسي والأزمة النفسية، فالأزمة تتراوح مدة الإصابة بها من شهر إلى ثلاثة أشهر، لكن عندما تطول مدتها أكثر من ذلك يشار إليها بأنها مرض نفسي. وعند دخول مرحلة المرض، قد يتدخل الأطباء باستخدام الأدوية للعلاج، لكن يفضل أن تبقى الخيار الأخير بعد الدعم والمعالجة النفسية. |
لا دقة في المعايير.. أوقفوا نسخ التجارب
لا بد لكل دراسة من معايير تنطلق منها وتبني على أساسها البحث العلمي، غير أن النمرة تأسف من أن كل باحث أصبح يأخذ معيارًا مختلفًا خاصًا به، وأكد الاختصاصي على وجوب استناد معيار أي دراسة على الواقع والشارع الذي يحيط بالفئة المستهدفة، فأي بحث يجب أن يدرس الشارع لما لا يقل عن ثلاثة أشهر.
كما شدد على استحالة أن تنطبق مقاييس بحث في مجتمع ما على مثيله في مجتمعات أخرى، ففي حرب الكوسوفو أطلقت مقاييس تختلف عن مثيلتها في حرب العراق مثلًا، وهنا تكمن المشكلة بكون أغلب الدراسات تقوم بنسخ المرتكزات من الإنترنت كما هي، ولصقها على البحث، وهو ما “ينسف 80% من الدراسة بأكملها”، بحسب توصيف النمرة.
لا توجد دراسات قطعية 100%
الاختصاصي النفسي أحمد شيخاني أوضح أن كل دراسة يجب أن تبدأ من طرح مشكلة وتنتهي بحلول ومقترحات، وينبغي ربط نتائج أي دراسة بمدى تطابقها مع المحددات والشروط التي انطلقت منها، وكذلك مع الأدوات المستعملة وحجم العينة ونوعها وشروط مرتبطة بها، كأن يكون فيها عدد معين من الأفراد تعمم نتيجة دراستهم على الفئة المستهدفة بعد خضوعها للجان تحكم بذلك، وعلى هذا الأساس إما أن تنشر النتائج أو لا، وكلما كانت الشروط دقيقة أكثر كانت نسبة صحة الدراسة أعلى.
أما النتائج فهي مرتبطة بالأطفال الذين درست عليهم، لكنها لا تنطبق بالضرورة، على جميع الأطفال من نفس المجتمع 100%.
وفي تركيا لم تظهر حتى الآن للعلن معايير ثابتة ومعممة لأبحاث الصحة النفسية عن الأطفال السوريين، ما دفع بالاختصاصي النمرة إلى العمل مع مراكز بحثية على وضع مقاييس خاصة للأبحاث التي تخص المراهقين والأطفال السوريين، عل نتائجها تنجح بالتخفيف عنهم، وتفيد الدارسين في حال أخذت توصياتها بعين الاعتبار، ولم تبق حبيسة الأوراق، أو مادة إعلامية فحسب.