“في النهاية، لن نتذكر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا”
التضامن والمناصرة ضرورة أم رفاهية
منصور العمري
“لا شيء يقوي السلطة كما يفعل الصمت”
ليوناردو دا فنشي
أحد معرفات الجماعات البشرية هي المجتمعات التي تتكون من مجموعات لأفراد تربطهم أهداف مشتركة، يتخذ فيها التضامن بأشكاله، والولاء وتحديد الهوية شروطًا أساسية لاستمرار هذه الجماعات والحفاظ على تماسكها.
كثيرة هي المقولات التي تؤكد على أهمية التضامن بين الجماعات المتسقة، كمنظمات المجتمع المدني بتعريفها الأوسع، وكل حسب اختصاصها، أو المؤسسات الإعلامية أو التجارية أو النقابات، إلخ.
فمن المقولات الشعبية المستمدة من قصص وعظية “أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض”، إلى الشريعة الإسلامية “مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ. إذا اشتكَى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى”، و”الساكت عن الحق شيطان أخرس” إلى القواعد المجتمعية، وأدبيات المجتمعات المدنية والمنظمات الحقوقية. يقف الصمت ضدًا مميتًا لكل هذه المقولات، عن التضامن والمناصرة.
أحد أهداف التضامن هو بناء حركات تجسد اهتمامات متبادلة بين المجموعات المتسقة، وتكون حمائية في المدى الطويل، أو التحرك الفوري في اتجاه محدد لمعالجة مشكلة آنية.
فمثلًا، يُضرب اليوم عمال القطارات في باريس، ويحصلون على مكاسب من الحكومة نتيجة لتضامنهم مع بعضهم، أي إضراب محكوم بالفشل إن لم يشترك فيه الغالبية العظمى من المجموعة صاحبة المصلحة، لأن السلطات تبحث عن البديل دائمًا في حالة الامتناع عن العمل مثلًا، وإن لم تجد السلطات هذا البديل ستُجبر على تلبية مطالب الجماعة المضربة أو التفاوض معها بجدية على أقل تقدير. وكذلك المؤسسات الإعلامية الحرة، والصحفيون المستقلون، إن لم يظهروا تضامنهم وتوحدهم تجاه معايير الصحافة الحقيقية، ستخلق السلطات صحافة بديلة أو ما تسمى البروباغاندا.
خلال متابعتي لحادثة الاعتداء على مراسل ومصور تلفزيون سوريا، تحدثت مع المراسل وائل عادل الذي اعتدت عليه عناصر أمنية في اعزاز، وبداية طلبت منه الحذر والحفاظ على سلامته الشخصية: “أهم شي سلامتكم، حتى تقدروا تتابعوا عملكم لازم تكونوا حذرين وتتحاشوا مسببات الخطر”، فأجابني وائل:
“نحن ثوار قبل أن نكون صحفيين، وحرية الإعلام لا تأتي بسهولة. سنتعب ونتعرض للخطر حتى نصل إليها”.
نعم! هذه هي جذوة التحدي التي تحاول السلطات القمعية عبر التاريخ إخمادها، وترويض مواطنيها كي تستأسد عليهم.
قمع نظام الأسدين الشعب في سوريا لعقود من الزمن، وبنى سياساته الترويضية مستعينًا بالخبرات السوفييتية والنازية، وغيرها من الأنظمة والأيديولوجيات المنغلقة والمعادية للآخر. استطاع نظام الأسد حكم السوريين لعقود، ولكن فشل في تحويلهم إلى قطيع يأتمر بما يمليه، رغم أنه أغرق الشعب السوري في سبات فكري ووجداني أسماه الأمن والأمان، وتبجح به طويلًا كبديل عن الحريات والرفاه الاقتصادي، الذي يعتبر محركًا أساسيًا لمجتمعات حية وحرة.
يبدأ التضامن بقبول طبيعتنا وتحديد هويتنا، ثم التأكيد على الروابط التي نتشاركها. يخلق التضامن بيئة يتم فيها تشجيع الخدمة المتبادلة، ويولّد ظروفًا اجتماعية يمكن فيها احترام حقوق الإنسان ورعايتها.
تطبيع مفهومي التضامن والمناصرة والعمل على تعزيزه في المجتمعات والجماعات المتسقة هو مسؤولية اجتماعية يتحملها المجتمع المدني بمختلف اختصاصاته، باستخدام منصات التواصل الاجتماعي التي قدمت منبرًا لهذه المجموعات، بما يمنع سيطرة الإعلام الموجه عليها، ويفسح أمامها المجال كي تحول مواقعها في الإنترنت، وصفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصات إعلامية تصل إلى مختلف شرائح المجتمع. لكن هذا الوسائل لا تغني عن عمل المؤسسات الإعلامية كالصحف والمجلات والتلفزيونات وغيرها. وسائل الإعلام المحترفة تتحمل المسؤولية الأكبر في نشر مخرجات منظمات المجتمع المدني، والعمل بشكل مستقل على نشر ثقافة التضامن والمناصرة، التي إن افتقدها المجتمع سادته السلبية والتخلي، مما يحتم تحوله إلى مجتمع مفكك ضعيف، يمكن لأبسط سلطة قمعه، ولأصغر عنصر أمني التشبيح على أفراده فرادى.
ترمي جهود التضامن والمناصرة إلى تغيير الممارسات والسياسات أيضًا على المستوى المحلي أو الوطني أو الدولي، لتغيير وضع أو أكثر لمجموعات الأفراد الذين يتشاركون نفس المشاكل، كما أنها تعمل على تحسين النظام ككل لصالح الأفراد، رغم أنه نهج طويل الأجل، فمن أجل حل المشكلات جذريًا يجب بذل جهود متواصلة، وتطبيع التضامن والمناصرة كأدوات أساسية في أنشطة المجموعات المتسقة.
رغم أن هناك عددًا لا بأس به من الأشخاص الذين لا يكترثون لمفردات التضامن والمناصرة، وقد لا يعرفون بدقة ما الذي تعبر عنه، لكن هؤلاء الأشخاص ذاتهم ينخرطون في التضامن والمناصرة بشكل منتظم خلال مسار حياتهم. يمارس أفراد العائلة الواحدة مثلًا -وهي مجموعة متسقة- التضامن بلا تردد ودون ربط أو إدراك للتضامن أو المناصرة بالمفهوم الفكري، إذ يدافع أفراد العائلة الواحدة عن بعضهم، ويمارسون جميع أشكال التضامن فيما بينهم، في مواجهة التحديات الاقتصادية والفكرية وغيرها في المجتمع والدولة.
للتضامن والمناصرة أدوات عديدة، تقليدية وإبداعية، من بينها الاقتراحات والتوصيات والمطالب وحتى التهديدات اللاعنفية، عبر وسائل مثل الحديث عبر الإذاعات، والمقابلات المرئية )تلفاز أو يوتيوب وغيره(، والبيانات الصحفية، ومراسلة الصحف، وكتابة المقالات في المجلات، وتأليف الكتب، والرسائل إلى أعضاء البرلمانات أو الحكومات، وغيرها.
الشراء الانتقائي أيضًا هو أحد الأمثلة على التضامن والعمل الجماعي. تروى قصة عن ارتفاع أسعار البيض في الأرجنتين، حين قرر المواطنون عدم شرائه، والتزمت الغالبية العظمى بذلك، ما أدى إلى تلف مخزونات البيض، وانخفاض أسعاره لأقل ما كانت عليه حتى قبل ارتفاع سعره. وضعت هذه الحادثة حدًا واضحًا للتجار وما يمكن أن يفعلوه في المستقبل.
قد تتخذ هذه الأدوات مسارات أخرى، كالمظاهرات السلمية عندما يكون التوقيت عاملًا حاسمًا في التضامن، أو الاعتصامات، أو الإضرابات عندما يتعلق الأمر بالحكومة أو في المؤسسات على اختلاف اختصاصاتها، وقد تتطور حتى إلى ثورات عنيفة، في حال فشلت كل الجهود على جميع المستويات، وأصبح العمل الثوري هو الحل الوحيد للدفاع عن النفس، والحقوق الأساسية.
يتضامن الناس من أجل عائلاتهم وأطفالهم وأصدقائهم ونواديهم الرياضية، وسياسييهم المفضلين، وزملائهم في المهن، وحقوق الآخرين، والمظلومين وغيرهم، بينما يكون الصمت بحد ذاته فعلًا سلبيًا يهوي بالجماعات المتسقة والمجتمع ككل، فـ “في “النهاية، لن نتذكر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا”، على ما قاله مارتن لوثر كنج.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :