خطيب بدلة
كانت حقبة الثمانينيات من القرن العشرين هي الأصعب بالنسبة للشعب السوري. المساعد الأول رفعت الأسد الذي حظي بسلسلة من الترفيعات السرطانية أوصلته إلى رتبة “عميد ركن”، ثم تحسنت أحواله فأصبح دكتورًا في العلوم السياسية، أحدثَ كتائبَ عسكريةً أطلق عليها اسم “سرايا الدفاع”، وأفلت عناصرها على الشعب السوري وكأنها كلاب جعارية، وأما حافظ، فقد أعطى الضوء الأخضر للشُعَب الأمنية بأن تفعل ما يحلو لها في سبيل إذلال الشعب، مع التأكيد على أن العنصر الأمني لا يُلام ولا يؤاخذ إذا أحدث للمتهم رضوضًا في جسمه، أو عاهات دائمة، أو إذا أماته تحت التعذيب.
يمشي المواطن السوري في الشوارع مرفوع الرأس، مرحًا، يلوح بسلسلة المفاتيح، ويصفر بفمه لحنًا راقصًا، وهو يعرف، ولكنه ينسى، أو يتناسى أن هذه الحرية الرائعة التي يتمتع بها مؤقتة، ومرهونة بأي جملة يقولها، مقصودةً كانت أو عفوية، تتضمن إساءة للقائد الضرورة، ووقتها لا بد أن ينقطع نصيبُه من الحرية، ومن تناول الطعام اللذيذ، ومن معاشرة النسوان، ومن القراءة، والكتابة، والعلم، والتعليم، والذهاب إلى المقهى، أو البحر والغابات.. ويستغرق في المعتقل شهرًا، أو شهرين، أو ستة، أو سنة، أو ثلاث سنوات، وحتى المؤبد، بحسب ما يقرر اللواء سليمان الخطيب رئيس محكمة أمن الدولة العليا، التي لا تحمل من اسمها سوى الاسم، إذ ليس فيها قوس، ولا مستشارون، ولا محلفون، ولا محامون، ولا شهود، ولا مرافعات، ولا تأجيل للجلسات.
يلوم المواطن نفسه لأنه حكى.. وأحيانًا يكون سبب اعتقاله أنه كان يسهر في مقهى، بين مجموعة من رفاقه، وتفوه أحدُهم بكلام مسيء موجه لشخص الديكتاتور الأسد، أو لنظام الحكم، أو لضابط مخابرات مدعوم، وهو، أي المواطن، سمع الكلام وسكت، أي أنه لم يتطوع ليكون مخبرًا على أصدقائه وأهل بلده، ولكنه، في السجن، يلعن الساعة التي سكت فيها على ما سمع، نادمًا أشد الندم لأنه لم يتحول إلى مخبر متطوع.
وقد يجور العناصر على السجين بالتعذيب، في ساحة التنفس، فيموت، والطبيب الشرعي، إن وُجِد، سيكتب أنه مات لسبب وحيد، هو أن عمره خالص، وأن الأعمار بيد الله، ووقتها يلتفت الطبيب نحو كاتب الضبوط ويسأله: أليس كذلك؟
فيرد عليه الكاتب: ونعم بالله يا سيدي.
ولمزيد من المرح، والفكاهة، أرجوك أن تعرف أن هذه الأحكام ليست مُلزمة حتى للجهة التي أصدرتها، أو للجهات الأمنية الأخرى التي يقع المتهم في قبضتها، فالسجين المحكوم ثلاث سنوات ليس بالضرورة أن يُطلق سراحه فور انقضائها، فقد ينام اثنتي عشرة سنة زيادة! وهناك طرفة نادرة يتداولها السجناء السياسيون، تقول إن مدير سجن تدمر “فيصل الغانم” كان يتمشى، ذات نهار جميل، في ربوع سجن تدمر الغناء، وكان رائقًا، يمزح، وينكت، فاستغل أحد السجناء الفرصة وقدم نفسه على أنه من نزلاء “مهجع البراءة”، وقد مضى على تبرئته أكثر من سنتين، ومع ذلك لم يطلق سراحه، فضحك (فَصُّولة)، وأقسم بما في حوزته من شرف، أنه سيخرج من هنا ولو بعد مئة سنة!