عنب بلدي – العدد 144 – الأحد 23/11/2014
د. سماح هدايا
هل الجسد هو عدو المرأة أو عدوها جهلها وذلها وضعفها واستهتارها؟ هل يمكن محاربة الشيطان بمجرد الاختباء في الملابس والشعائر؟ أو محاربته بالفضيلة والحكمة والعقل؟
الزمن كأنه تجمّد هناك في عصور بلت، لكننا في عصر حديث، فكيف يمكن أن ننسخ في حاضرنا يوميات القرون البعيدة؟ وبالمقابل فإن من يريد نسف التاريخ كله لأنه قديم، وتحقيره؛ فهو يعتدي على الوجدان ويحاول نزع الذاكرة الموروثة.
تفكيك المنظومة الفكرية السائدة، وتهديمها أو تقديسها قد جلب الفوضى، وتنطحت أفكار مسبقة راسخة ضحلة لقتال القيم، أو لترسيخها من دون بصيرة ونظر. صراعات كثيرة يخوض فيها السوريون ضد بعضهم وضد تاريخهم وذاتهم. ومثلما كان الخطاب قبل الثورة يهدر جهده في جدل وصراع حول قضايا جزئية من الموروث الديني، بقراءات متطرفة يسارية أو يمينيّة، لسياقات مجتزأة، وخصوصًا فيما يتعلق بحرية المرأة، وبالتحديد الحريّة الجسديّة وموضوع اللباس والحجاب ومفاهيم الحشمة والسترة، استمر أيضًا بعد الثورة، منفلتًا من كل الضوابط ومن أبجديات احترام الذات والآخر، متجاهلًا جوهر الأمر وهو ظلامية الجهل والاستبداد.
كأنّ المفاهيم الدينية وأمن الأوطان مهدّدة بشيطان اسمه امرأة، يرتدي جسدها ليغري ويفتن ويفسد. إصرار شديد على تمجيد الأعراف البالية التي تؤطّر المرأة في صورة إثارة قابلة للاستغلال والإفساد والشيطنة. وذلك ليس محور خطاب ديني فقط، بل صلب المخيلة الثقافية التي تتشكل فيها المرأة كشيء مسلوب الإرادة بين قبضتي الكبت والانفلات. ونتيجة للتربية، قبلت المرأة هذه الصورة، فوقفت عند حدود أنوثتها الجسدية وأغفلت إرادتها الحرة وتنمية مستويات أخرى يمكن أن تقويها وتطلق طاقاتها وتحررها من كونها مجرد شيء ثمين للتمتّع، يجب ستر إغرائه ومفاتنه؛ أو عرضه وإطلاق طاقاته بشكل جامح للسيطرة والاستهلاك. وعليه تأسس جدل اللباس والحجاب ودار الصراع والتخاطب التحقيري بين طرفين: أنصار فرض الحجاب وأنصار رفض الحجاب؛ كأنّ وجدان المرأة ودينها وقيمتها وحداثتها انزوى في موضوع الحجاب، لا في منظومة القيم والأخلاق، وحق الحرية وفرض المسؤولية.
التحرر ليس منافيًا للفضيلة، وليس رديفًا للرذيلة. والوقار ليس الكبت وتعنيف الذات والآخر. حرية المرأة، لا تعني المجون ولا توظيف الجنس لغايات رخيصة. المفروض في القيم الدينيّة أنها للحرية قيم أخلاقية لصالح الإنسان، ولتعزيز معاني الصدق والوفاء والإباء والفداء والسخاء والشجاعة والعزّة والكرامة، وليس لتأطير الإنسان في ثوب واحد وقالب جامد. ليس هذا تفسيرًا دينيًا أو موقفًا، لكنّه نقد جريء للحجاب كقضية إشكاليّة نتخاصم عليها ونتقاتل، ونهاجم المحجبات أو السافرات لمجرد اللباس؛ بدل محاربة الاستبداد والظلم وتحرير عقولنا وقلوبنا طلبا للمعرفة والحق والعدل والإخاء.
كثيرًا ما ترفض العلمانية الحجاب وتناهضه، وكثيرًا ما تركز الصحوات الإسلامية على الحجاب والشعائر. التطرف في الحالتين مرفوض، ويناقض الحرية ويسلب الإرادة. الأحكام بحاجة إلى إعادة نظر. كل الأعراف والتقاليد في أي أيديولوجيا وليدة عصرها، جاءت لتنظيم المجتمع، لكنها بحاجة للتطوير مع مرور الزمن. فرق كبير بين حق المرأة في اختيار الحجاب أو السفور، وبين فرضهما بقوة السلطة الدينية والسياسية والاجتماعيّة وتسييس الموضوع.
ليس في الحجاب مشكلة، فهو زيّ وشعار شكلي؛ لن يؤخّرنا ولن يقدمنا. المهم ما يجعلنا ننهض من الرماد شجعانًا منتصرين، نزع الحجاب أو ارتداؤه موقف شخصي، ليس بالتأكيد مدلولًا أخلاقيًا وإنسانيًا عقائديًا، ما لم يكن القلب والعقل والإرادة وراء هذا، وإن لم يكن مصحوبًا بحرية الاختيار واحترام كرامة الآخر وخياره.