حنين النقري – ريف دمشق
بابتسامته الطفولية وملامحه البريئة يلقاك راشد، لكن ابتسامة الطفولة ليست محببة لديه، بل هي لعنة يطالعها كل يوم على المرآة، إن كان يدرك أنها لعنة.
إنه في السابعة عشرة من عمره، لكنك تشعر أنه في السابعة، وليس الأمر عيبًا خلقيًا اعتاد عليه، بل هو هدية مأساوية من ظروف الحرب والجهل والضغوط النفسية التي تقاسمنا ميراثها كسوريين؛ كل له حصة ونصيب.
منذ عامين فقط، كان راشد ككل أقرانه يقصد المدرسة، إذ حلم أبوه بعمله البسيط بأبناء يتجاوزون واقعهم بعلمهم، وينالون عزّهم بشهاداتهم بعد أن بخل عليهم القدر بالمال أو الجاه أو النسب.
متغافلًا النزوح والتهجير عن المنزل، وتعرض أبيه لإصابة وفقده ذراعه بقذيفة لم تخطئه، حاول راشد أن ينال شهادة التعليم الأساسي، لكنه رسب.
لم يتحمل والده اجتماع المآسي عليه بهذا القدر، فانهال على راشد ضربًا بكل ما طالته يده من أثاث وخشب؛ ونتيجة لذلك أغمي على الفتى فورًا، لتكون هذه نقطة التحول في حياته.
“حاولنا إيقاظه بالماء والبصل، ولما أفاق حسبنا أن أموره عادية، لكنه بدأ يعاني من اختلاجات ونوبات يفقد فيها وعيه تمامًا، فقصدنا الطبيب” تقول أم راشد.
بدوره أخبر الطبيب أم راشد عن حاجته لصور وتخطيط للأعصاب، وهنا اتضح أن الضرب أثر على جملته العصبية، وأن هذه الأعراض ستلازمه مدى الحياة، تخفف من حدتها الأدوية الكثيرة التي يتناولها، لكنها لا تشفيه.
“أصبحت ألحظ بعد الحادثة، بالإضافة للاختلاجات والنوبات المتكررة، شروده الدائم، بطء كلامه؛ راشد لا يتمكن من التركيز على ما أطلبه منه أبدًا، جسده لا يتحمل أدنى مجهود عضلي، والشمس تصيبه بالدوار على الفور”، بينما بدأت ملامح وجهه تكتسب شيئًا من السذاجة، وفق ما تخبرنا أم راشد.
والده، الذي يبدو أنه السبب المباشر، يعيش في الخفاء عقدة ذنب لا يغتفر، فلقد غيرت “لحظة الجنون” التي استسلم لها غيرت مجرى حياة ابنه للأبد.§
تحاول أم راشد تبرير موقف زوجها والتعاطف معه “لا أريد الدفاع عنه، لكنه كان يمر بظروف سيئة جدًا جعلته يتصرف من دون وعي وبعنف كبير”.
اليوم، وبعد عامين من الإصابة، يعيش راشد في منزل نزوح في ريف دمشق مع أهله، لا عمل له إلا التجول حول البيت في النهار مخافة أن يتعرض لنوبة، بصحبة أبٍ أفقدته الحرب ذراعه وأفقده الجنون مستقبل ابنه وصحته، وأم تسعى لتعويض الفقدين بما تستطيعه من أعمال، ومن قصد الجمعيات الخيرية علّها تغطي بعض تكاليف الحياة واحتياجاتها، وتوفر بعض المال لشراء أدوية ابنها المريض.
“يعاني راشد من أكثر من 20 نوبة يوميًا ما لم يتناول الدواء، وهو عبء مادي آخر بالإضافة لأجرة المنزل والمعيشة اليومية” تضيف أم راشد.
مأساة راشد ليست وحيدة، بل هي نموذج معبر عن الأذى النفسي في ظل الحرب للأطفال وللكبار على حد سواء.
وإن اعتبر البعض أن تحميل الحرب تبعات إصابة راشد هو من قبيل المبالغة، فإن علم النفس يقول خلاف ذلك، فبداية من رسوبه يعتبر ضعف التحصيل الدراسي أولى الانعكاسات المعرفية على شخصية الطفل بتأثير الحرب، وذلك نتيجة لفقدان الأمان والاستقرار وعدم استمرارية التعليم والانشغال بالأحداث والغياب المتكرر وتدمير المدارس والجوع، وصولًا لظروف النزوح وإصابة والده وفقده عمله، وتأثير ذلك على الحالة النفسية –وربما العقلية– للأب، انتهاءً بغياب عامل الوعي في معالجة ومتابعة حالة راشد، وعدم وجود القدرة المادية لعلاجها بشكل أكبر.
ختامًا، فإنه ومما لا بد منه الإشارة إلى مقدار التساهل الاجتماعي مع أخطاء الأهل تجاه أبنائهم، وتبرير وحشية تعاملهم معهم لا بمنطق البنوة والأبوة، وإنما العبودية والألوهية، وهو أمر في تزايد مستمر في ظل الحرب؛ ﻷن الأبناء هم فقط من يمكن أن يفرغ بهم الأهل همومهم ومشاكلهم وضغوطهم النفسية بشتى الوسائل، وفق صك ملكية دائم، دون أن يلاموا.