نشرت “هآرتس”، منذ أيام، مقالاً لافتاً، يفنّد الدروس المستفادة إسرائيلياً، من تجربة ضربة المفاعل النووي السوري، عام 2007، وإسقاطاتها، على التهديد النووي الإيراني.
المقال بقلم شخصية كانت قريبة من الدائرة الضيقة لصنع القرار في القدس الغربية عشية اتخاذ قرار الضربة. مايكل هيرتسوغ، الذي كان يتولى حينها منصب رئيس ديوان مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك. وهيرتسوغ، هو زميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.
إذا اعتمدنا ما جاء في شهادة هيرتسوغ، التي تستهدف تقديم نصيحة لصانع القرار الإسرائيلي الحالي، بخصوص التهديد النووي الإيراني، نستطيع بدورنا، الخروج بخلاصة لافتة جداً، تخص الشأن السوري تحديداً.
أبرز ما تضمنته شهادة هيرتسوغ، هو أن الاستخبارات الإسرائيلية صُدمت حينما تأكدت بأن بشار الأسد يعمل بالفعل على تطوير مفاعل نووي سرّي، على أراضيه. وخلال خمس سنوات، قبل التأكد من ذلك، كانت المؤشرات التي تصل الى المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، بهذا الخصوص، يتم التعامل معها وفق فرضية خاطئة، تعتبر أن من غير المعقول أن يحاول بشار تطوير قدرات عسكرية نووية. قياساً على شخصية والده. وهو ما أدى إلى قصور في معالجة الاستخبارات الإسرائيلية للمعطيات التي كانت تصلها من الداخل السوري، أخّرت اكتشاف المفاعل النووي السوري خمس سنوات، بحيث كاد يصبح قيد الإنتاج، حسب شهادة هيرتسوغ.
وهكذا أخطأت الاستخبارات الإسرائيلية في تقدير منطق تفكير بشار الأسد. فالأخير اختار، بدلاً من القيام ببناء بنية تحتية نووية محلية، أن يشتري كل شيء جاهزاً من كوريا الشمالية. ولو لم تكتشف الاستخبارات الإسرائيلية الأمر في الوقت المناسب، ربما كان خرج عن السيطرة. وخلص هيرتسوغ إلى أن مقارنة بشار بأبيه، كان خطأ استراتيجياً للمجمع المخابراتي الإسرائيلي. فالابن كان شخصية غير ناضجة، يتميز بشكل متزايد بالجانب المغامر لديه. بخلاف والده، الذي كان الإسرائيليون على يقين بأنه لا يمكن أن يسعى لتطوير قدرات نووية عسكرية.
صفتان خرج بهما الإسرائيليون، حيال شخصية بشار. عدم النضج، والميل للمغامرة. بخلاف والده. فهل تجنى الإسرائيليون على بشار في التوصيف؟
الجواب يتضح بعد الثورة عام 2011. السياسة التي اعتمدها بشار تُظهر بالفعل، قدراً كبيراً من عدم النضج والميل للمغامرة الجريئة. يظهر ذلك بشكل جلّي، حينما وقع في خطأ نوعي. إذ دفعته رغبته في الاستمرار بمواجهة التمرد المسلح المتفاقم ضده، إلى استجلاب الإيرانيين، ومن ثم الروس، إلى بلده. فكانت النتيجة، اليوم، سيطرة إيرانية – روسية، كبيرة، على عملية صنع القرار، بدمشق، ذاتها.
في تحليل آخر، نشره معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، للباحث، فيليب سميث، صاحب دراسة صادرة باللغة الإنكليزية، بعنوان “حركة الجهاد الشيعي في سوريا وتداعياتها الإقليمية”، يستعرض الباحث سلسلة من التطورات الميدانية، والمؤشرات المرتبطة بها، ليخلص إلى نتيجة، يتفق معه فيها الكثير من المراقبين، أن النفوذ الإيراني على الأرض في سوريا، بات يتفوق بشكل كبير، على نفوذ نظام الأسد، نفسه، وكذلك يتفوق بشكل واضح على النفوذ الروسي.
لا يظهر بشار، في إطلالاته، بمظهر المغامر، أبداً. فإطلالاته، مدروسة بعناية، إلى حدٍ ما. وكلماته كذلك. لكن، يعتقد الكثيرون من المتخصصين أن عقدة الابن الأوسط، كانت وما تزال تنال من ثقته بالنفس، وتدفعه نحو البحث عن هامش يثبت من خلاله، نفسه. فالراحل باسل، كان مقرباً من والده، فيما الأصغر، ماهر، كان مقرباً من الأم، حسب شهادات الكثيرين ممن كانوا على مقربة من الحياة العائلية لآل الأسد.
هل كان يمكن للأسد الأب أن يقع في خطأ جلب الإيرانيين إلى أرضه، بهذه الكثافة والنوعية؟.. لا يبدو أن الإسرائيليين أنفسهم توقعوا ذلك. لكن بالعودة إلى شهادة الباحث الإسرائيلي، هيرتسوغ، يبدو أن تجربة ضربة المفاعل النووي السوري عام 2007، أثبتت للإسرائيليين خلاصة أخرى مهمة. فحينما تشاور الإسرائيليون مع نظرائهم الأمريكيين، في الأمر، لم يُبدِ الأمريكيون رغبة في التورط. لم يقل هيرتسوغ ذلك صراحةً في شهادته. لكنه أشار إلى أن جورج بوش الابن، اقترح عليهم إصدار إنذار للأسد، بوجوب السماح للمفتشين الدوليين بزيارة المفاعل في غضون فترة زمنية قصيرة، تحت طائلة التلويح بضربة، إن رفض. الأمر الذي أجبر الإسرائيليين على التحرك بشكل منفرد، لأنهم خافوا أن يتيح الإنذار والمهلة التالية له، فرصة للأسد لاتخاذ خطوات لإخفاء المفاعل وحمايته، بحيث يصبح من المستحيل تدميره. كان الإسرائيليون يريدون استغلال نقطة تفوق لهم، وهي جهل الأسد بأنهم اكتشفوا المفاعل. فتحركوا بأنفسهم لضربه. وكانت الخلاصة التي خرجوا بها، أن عليهم ألا يعتمدوا على جهات صديقة، في حفظ أمنهم القومي، حتى لو كانت هذه الجهة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
شهادة هيرتسوغ، تكشف لنا أن المزاج العام في أروقة صنع القرار بواشنطن، أخذت تميل سريعاً نحو تخفيف هوامش التورط العسكري الخارجي، منذ نهاية عهد بوش الابن. وذلك معروف للكثيرين من المتابعين. لكن، لم تكن المعلومة التي تفيد بأن أمريكا تلكأت في القيام بتحرك عسكري داعم لإسرائيل ضد المفاعل النووي السوري، عام 2007، متاحة للعموم. وهي معلومة تؤكد أن الأمريكيين يركنون إلى قدرة إسرائيل العسكرية، بصورة تدفعهم لعدم الانخراط أكثر في مشكلات المنطقة.
وهذا ما يظهر جلياً هذه الأيام. ما يزال المزاج العام لدى الشارع، وحتى لدى النخبة، في الولايات المتحدة، يميل نحو عدم التورط العسكري الخارجي، قدر المستطاع. لذلك ينصح هيرتسوغ، صانع القرار الإسرائيلي، اليوم، أن يستفيد من درس العام 2007، ولا يراهن على الأمريكيين، في حال خرج التهديد النووي الإيراني عن السيطرة، وانهار الاتفاق مع طهران.
لا يعني ذلك بطبيعة الحال، أن الإسرائيليين سيتخلون عن تحالفهم الوثيق بالأمريكيين. لكن يعني أن واشنطن باتت أبطأ في أي تحرك عسكري نوعي، من القدر الذي يراعي حساسيات الصراع في المنطقة، وما يتعلق بالأمن القومي لحلفائها، وفي مقدمتهم، إسرائيل، نفسها.
وبالعودة إلى “الأسد غير الناضج”، حسب التوصيف الإسرائيلي. يبدو أنه نجح في ضمان كرسي الحكم لنفسه، ولعائلته، لكنه فقد النفوذ على معظم التراب السوري، لصالح الإيرانيين، الذين يسيرون بخطى متسارعة، لتحويل ساحة بلده إلى منصة متقدمة لتهديد الأمن الإسرائيلي، فيما يستنفر الإسرائيليون لمواجهة ذلك، الأمر الذي يفتح المجال لاحتمالات عديدة، أقلها ترجيحاً، اتفاق نووي جديد يجعل إيران عضواً مقبولاً في المنظومة الإقليمية والدولية، وأكثرها ترجيحاً، استمرار الحرب بالوكالة، من جانب إيران، تجاه الأمريكيين والإسرائيليين، في الشمال والجنوب، باستخدام الميليشيات الشيعية المحلية والأجنبية، وبالاعتماد على نفوذها في التراب السوري.