عنب بلدي – ضياء عودة
تفرض شركات تركية خاصة واقعًا استثماريًا جديدًا في ريف حلب الشمالي، بعدما أقمحت نفسها ووضعت موطئ قدم بمشاريع كبيرة في القطاعات الرئيسية للخدمات التي يحتاجها السكان.
وجاءت هذه المرحلة بعد خطوات وعمليات تأهيل متتالية نفذتها الحكومة التركية في ريف حلب الشمالي عقب السيطرة الكاملة عليه من قبل فصائل “الجيش الحر”، لتكون الاستثمارات الحالية استكمالًا لهذا الدور، لكن على يد رجال أعمال كبار دخلوا بعقود ومناقصات فردية مع مجالس شمالي حلب، وكان للولايات التركية دور الوسيط في تيسيرها.
لا يمكن فصل الواقع الاستثماري في ريف حلب عن ملف إعادة الإعمار في سوريا، والذي تحاول تركيا الدخول فيه من بوابة المدن والبلدات التي دمرتها المعارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” على طول حدودها، وتسعى إلى تثبيت وجودها في المنطقة اقتصاديًا بمشاريع أعلنت عنها رسميًا، وأخرى بدأت تنفيذها شركات خاصة بآليات مختلفة.
سبعة ملايين دولار في اعزاز
منذ مطلع العام 2018، دخلت ثلاث شركات خاصة باستثمارات شمالي حلب، كان آخرها شركة أوصلت الكهرباء إلى مدينة اعزاز، بعد انقطاع دام لسنوات، ويعتبر المشروع الذي نفذته الأكبر من نوعه في المنطقة، استنادًا لحاجة الأهالي في ريف حلب للكهرباء، إذ يعتمدون على المولدات حاليًا.
جاء المشروع ضمن عقد وقعه المجلس المحلي في المدينة مع شركة “ET Energy” التركية ذات المليكة الخاصة، وتوسطت بين الطرفين ولاية كلس، على أن تتعهد الشركة بتغذية اعزاز باستطاعة 30 ميغا واط، مقابل توفير الأرض والمواد الأولية اللازمة للمضي في المشروع.
وحتى اليوم، وصلت التكلفة الكاملة للمشروع حوالي سبعة ملايين دولار، بعقد لمدة عشر سنوات، وبحسب مدير قسم الخدمات في مجلس اعزاز، محمد حاج عمر، في حال أي خلاف بين المجلس المحلي والشركة ستتولى ولاية كلس حل الأمر، بينما يتولى المجلس حل أي خلاف بين الشركة والمواطنين، وفقًا لبنود الاتفاق.
وقال حاج عمر لعنب بلدي إن المجلس شريك من الناحية الإدارية، بينما تتكفل الشركة التركية ببقية الأمور، مضيفًا أن المجلس قدم الأرض للمحطة الحرارية وأبنية إدارية وأخرى للتخزين، بالإضافة إلى مواد عينية كأسلاك نحاسية وألمنيوم وأكبال أرضية بقيمة تتراوح بين 400 و500 ألف دولار.
تمديد خطوط الكهرباء سيصل إلى داخل المنازل بشكل مباشر، وستمنح الشركة التركية ساعات كهرباء جديدة خاصة، وفق حاج عمر، وأوضح أن طريقة الدفع ستكون عبر مراكز مؤسسة البريد التركية (PTT) التي نشرت مؤخرًا في ريف حلب، على أن تكون رسوم اشتراك كل بيت 400 ليرة تركية، قابلة للاسترداد.
من الناحية العملية قدم المشروع خدمات كبيرة بالنسبة لاعزاز والمدنيين القاطنين فيها، خاصة أن الكهرباء ستكون بشكل يومي وعلى مدار 24 ساعة، إلا أن المجلس يستفيد من المشروع بنسبة 1% فقط.
وبحسب حاج عمر، جاءت النسبة المتدنية للمجلس كون المشروع خدميًا وليس ربحيًا، ويزيد الثقة بين القائمين على المجلس والأهالي، مؤكدًا أن المجلس يركز فقط على الخدمات.
ولم يحدد سعر الكهرباء بشكل نهائي حتى اليوم، وأشار عمر إلى أن السعر سيكون رمزيًا وأرخص من الأمبيرات التي توفرها المولدات، وسيكون نصيب كل منزل حوالي 100 أمبير.
ولا يحق لأي مشترك الحصول على الكهرباء إلا بعد التسجيل في الشركة، وفيما بعد يتم تصديق الأوراق بشكل مباشر في المجلس، الذي يتولى مهمة التواصل بين المواطنين وأصحاب المشروع.
قباسين والباب ضمن الخطط
منذ بسط سيطرتها الكاملة على المنطقة وضعت تركيا خططًا مستقبلية على مختلف الأصعدة، إن كانت أمنية عبر فرض قوانين في المنطقة وإلزام الفصائل بالتوحد ونقل مقراتها العسكرية إلى خارج المدن، أو اقتصادية عبر فتح المعابر الذي إلى انتعاش اقتصادي غير مسبوق في المنطقة، أو خدمية عبر دعم المجالس المحلية وتأهيل المنشآت والطرقات، وافتتاح أفرع لـ”PTT” في جرابلس واعزاز والباب والراعي، وتركيب أبراج لشركات الاتصالات التركية.
وسبق مشروع الكهرباء المنفذ في اعزاز، مشروع سكني في مدينة قباسين وقّعه المجلس المحلي في المدينة مع شركة “جوك تورك” للإنشاءات والبناء التركية الخاصة، في كانون الثاني الماضي.
وحمل المشروع اسم “ضاحية قباسين السكنية”، وهو مؤلف من خمس كتل إسمنتية، ويحتوي على 225 شقة سكنية، وحوالي 30 محلًا تجاريًا، تمتاز بمساحات مختلفة، ومبنية على النمط التركي، ومن المفترض أن ينتهي العمل فيه، في آب العام المقبل.
وبنفس الآلية وقع عقد بين المجلس المحلي والشركة، تضمن أن يوفر المجلس أرضًا صالحة للبناء في قباسين على أن تتكفل الشركة بكامل بنود المشروع.
وبحسب مدير المشروع، علي عبيد، أبرمت مذكرة تفاهم مع الشركة، وحصل المجلس على نسبة معينة من الشقق لقاء ثمن الأرض، واطلع قبل عملية التنفيذ على شروط البناء والمواصفات.
ومنذ مطلع آذار الماضي، بدأت عملية البناء، لكن الإقبال على شراء الشقق لم يكن بالمستوى المطلوب، وأوضح عبيد لعنب بلدي أن المجلس يتوقع زيادة نسبة الشراء عقب الانتهاء من البناء بشكل كامل.
مدينة الباب شهدت دخول مستثمرين أتراك أيضًا، لكن بمجالات محددة بعيدة عن الخدمات التي يحتاجها المدنيون كالكهرباء والماء.
وفي الأشهر الماضية وقع المجلس المحلي في الباب عقدًا مع شركة “يورو بيتون” قضى ببناء مجبل لمادة الإسمنت في المدينة، وقال مدير المكتب الإعلامي في المجلس، محمود نصار، إن العقد الموقع نص على إنتاج الإسمنت الجاهز للبناء مقابل تقديم مكان تنفيذ المشروع من قبل المجلس المحلي.
وأشار لعنب بلدي إلى خطوات يتم العمل عليها لتأمين الكهرباء أو استجرارها من الأراضي التركية.
مشاريع ترتبط بـ “مزاج” المتعهد
وبالعودة إلى عبيد، لفت إلى مشاكل تعاني منها مدينة قباسين في الحصول على المياه ومادة الغاز، وقال إن مستثمرًا تركيًا عرض مشروعًا لتوصيل المياه، لكنه لم ينفذ على خلفية تعليمات تلقاها من مسؤولين أتراك بالتريث بالمشروع.
وأضاف أن مستثمرًا تركيًا آخر عرض مشروعًا لمنشأة تعبئة غاز لصالح المجلس المحلي، لكنه اشترط استهلاك 500 جرة بشكل يومي، وهي كمية كبيرة لا يمكن تصريفها داخل المدينة، ما عرقل المشروع أيضًا.
وكان مجلس قباسين قدر تكلفة مشروع للحصول على المياه بـ 150 ألف دولار، إذ يوجد بئران في البلدة يحتاجان إلى إنشاء مضخات على الجبل، لكن حتى اليوم لم يبدِ أي مستثمر جاهزيته للخوض فيه.
وإلى جانب المشاريع السابقة يضع مجلس اعزاز اللمسات الأخيرة لمشروع استجرار المياه من سد ميدانكي في عفرين إلى المدينة عبر محطة شران، وبحسب مدير قسم الخدمات تواصل المجلس المحلي مع ولاية كلس، وأرسلت وفدًا هندسيًا للوقوف على الأضرار التي تعرضت لها المحطة والشبكات.
وقال إن مشروع ضخ المياه يقف حاليًا على الكلفة التشغيلية، والتي تحتاج إلى 7200 ليتر مازوت، تقع على عاتق المجلس فقط، على أن تدعم وحدة المياه في مرعش في الأيام المقبلة عملية توصيل المياه إلى اعزاز.
ومن المفترض أن يبلغ معدل الضخ ثماني ساعات يوميًا، وتحددت رسوم الاشتراك بـ 7000 ليرة سورية، على أن يكون التركيز في بادئ الأمر على الوحدات السكنية وسط المدينة.
التواصل فردي بعيدًا عن “المؤقتة”
بالتزامن مع تنفيذ المشاريع في ريف حلب وتنوعها من الأمور الخدمية إلى الربحية، طرحت التساؤلات عن الآلية التي يتم فيها دخول المستثمرين الأتراك إلى المنطقة، والخطوات التي تتبعها المجالس المحلية، والدور الذي تقوم به “الحكومة السورية المؤقتة” باعتبارها المسؤول الأول عن عمل المجلس في المنطقة.
عنب بلدي تحدثت مع وزير الخدمات في “الحكومة المؤقتة”، عبد الله رزوق، وأوضح أن استثمارات الشركات التركية الخاصة في ريف حلب تتم بصورة فردية بعيدًا عن “الحكومة”، إذ يتواصل كل مجلس مع الشركة الراغبة بالاستثمار ويتفقان على تنفيذ المشاريع المطروحة.
وشرح مدير قسم الخدمات في مجلس اعزاز آلية التواصل مع الشركات التركية الخاصة، وقال إن الاستثمارات والعقود تكون عن طريق الحكومة التركية، إذ توجد في كل مجلس لجنة قانونية خاصة ومكتب فني ومالي يتم عن طريقهم إعلان وفض العروض.
وأضاف حاج عمر أن غالبية العقود تتم في الجانب التركي في بلدية كلس وولاية مرعش وأحيانًا في غازي عنتاب حسب العقد والمشروع.
ويرفع المجلس المشروع الذي يحتاجه إلى الولاية المذكورة لتجري بدورها مناقصة لاختيار المتعهد المطلوب لعملية التنفيذ، وفيما بعد تأتي مرحلة التباحث في بنود العقد وآلية التنفيذ ومعدل الاستفادة.
وأوضح مدير مشروع قباسين، علي عبيد أن مستثمر المشروع السكني جاء بصورة فردية إلى المجلس وعرف عن نفسه واسم الشركة التي يعمل بها، وقدم مخططات سكنية للبناء إلى المجلس الذي وافق بدوره على العرض.
وبحسب عبيد، فإن “الحكومة المؤقتة” ليس لها أي علاقة بالمشاريع المنفذة، وينحصر عملها بالإشراف على عمل المجالس بين الفترة والأخرى فقط.
السوريون خارج الحسابات
ومع تتالي الاستثمارات التي تقودها الشركات التركية الخاصة، يلاحظ غياب رجال الأعمال والمستثمرين السوريين في المنطقة، رغم نجاح المئات منهم بإنشاء مشاريع داخل الأراضي التركية، وخاصة في مدينتي اسطنبول وغازي عنتاب.
وتنوعت استثمارات السوريين بين الكبيرة المرتبطة بمشاريع العقارات والأبنية السكنية، وأخرى تتمثل بالمطاعم والمعامل الصناعية التي نشطت في غازي عنتاب، وشكلت 50% من نسبة الصناعة الكاملة في المدينة، بحسب ما أعلن عنه مسؤولون أتراك مؤخرًا.
وبحسب حاج عمر، تقتصر استثمارات السوريين في ريف حلب الشمالي على المشاريع الصغيرة كتعبيد الطرقات، وما يرافقها من أبنية سكنية على نطاق محدود.
واعتبر أن الاستثمارات التي تدخل فيها الشركات التركية تكون على نطاق واسع، والتي لا يمكن للمستثمرين السوريين الدخول فيها، مشيرًا إلى أن المشاريع الضخمة شمالي حلب تنحصر عن طريق الحكومة التركية والشركات الخاصة بها.
وفي حديث سابق مع الباحث الاقتصادي ملهم جزماتي، أكد أن غرفة تجارة غازي عنتاب دعت أكثر من مرة رجال الأعمال السوريين إلى الاستثمار في ريف حلب، وتحاول دائمًا جمعهم ليكونوا أول من يستفيد في هذه المناطق والاستثمار بها، لكن لم توجد خطوات جدية من كلا الطرفين، سواء من رجال الأعمال السوريين الموجودين في تركيا أو من طرف الحكومة التركية.
وأشار جزماتي إلى أن عددًا من التجار تقدموا مؤخرًا بطلب لغرفة التجارة برغبتهم بالاستثمار في جرابلس وإنشاء أعمال هناك، إلا أن الموافقة على هذه الطلبات لم تأت من قبل الجانب التركي.
وبحسب الباحث، هناك دراسة رفعت إلى غرفة تجارة غازي عنتاب حول إمكانية نقل تجربة البلديات التركية إلى ريف حلب، إذ إن كل بلدية مستقلة تمامًا عن البلديات الأخرى ولها ميزانيتها الخاصة بها، وسط مطالبة من الحكومة التركية بنقل التجربة إلى المنطقة.