حذام زهور عدي
لم تلتفت الدول التي تقاسمت الشرق الأوسط إلى خصوصية شعوب المنطقة ومصالحها القومية أو التنموية المرتبطة بتحقق انتماءاتها التاريخية، فقد كان المعيار الذي انطلقت منه للتشكيل الجديد، تقاسمها وفق ما تحتويه أرضها من ثروات وما يعنيه موقعها من أهمية استراتيجية.
لكنها بالوقت نفسه استرضت بعض دول المنطقة -تحقيقًا لاستقرار مصالحها- فسلخت أقسامًا من أقاليم أخرى كانت جزءًا من أراضيها تاريخيًا، كإلحاق لواء اسكندرون وأراضي كيليكيا بتركيا، بعدما كانت جزءًا من بلاد الشام وغالبية سكانها تنطق إما اللغة العربية أو السريانية، وكما حدث مع كرد تركيا وغيرهم من العناصر والإثنيات التي كانت منضوية تحت الخلافة العثمانية، وبجرة قلم ارتكبت هذه الدول أفظع الجرائم بإعطاء فلسطين للحركة الصهيونية حليفتها في حروبها العالمية.
وفي نطاق تصرفها بالشرق الأوسط ألحقت منطقة الأحواز العربية بالدولة الشاهنشاهية عام 1925، بعد أن كانت إمارة ملحقة بالبصرة العراقية أيام الخلافة العثمانية، دون أي اهتمام بالغالبية العظمى من سكانها الذين ينتمون للعروبة لسانًا ونسبًا، والذين سكنوا تلك المنطقة من قبل الإسلام وفتوحاته، وهم الذين ساعدوا العرب المسلمين على إسقاط الحكم الكسروي ونشر الإسلام، واليوم يُحيي الأحوازيون الذكرى 93 للاحتلال الفارسي لبلادهم تأكيدًا على انتمائهم العربي ورفضًا للإلحاق بإيران الفارسية.
والأحواز هو الاسم الذي يؤثر أهلها إطلاقه عليها، وهو اسم عربي مشتق من فعل حاز أي امتلك، والأحواز العربية أي الممتلكات العربية. تاريخيًا أطلقت عليها مسميات متعددة، مثل: الأهواز بإبدال الحاء هاءً لصعوبة نطق الحاء في اللغة الفارسية، واسم خورستان “أرض الخور” أي الخليج، والخور أيضًا كلمة عربية من فعل خار يخور، كصفة لوضعها الجغرافي، كما أطلقت عليها المرحلة القاحارية التي حكمت بلاد فارس قبل الإمبراطورية الشاهنشاهية اسم عربستان، أي أرض العرب، وبقيت تعرف بهذا حتى أوائل الدولة الشاهنشاهية وقبل أن يعمد الشاه أواخر ثلاثينيات القرن الماضي إلى تغييره إلى خوزستان، ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم يُشار إليها في الأدبيات السياسية الإيرانية باسم خوزستان.
للأحواز أهمية استراتيجية كبيرة فهي تمتد عبر القوس الشمالي للخليج العربي شرق البصرة، وتصل إلى أكثر من ربع الشاطئ الشرقي للخليج مما يسمح بتسميته “العربي” لأن معظم شواطئه الغربية والشرقية يسكنها سكان عرب، كما أن للأحواز أهمية اقتصادية كبيرة، فمعظم بترول إيران وغازها يأتي من أرضها، وتعطي سهولها نصف الناتج الوطني زراعيًا وفق الدراسات الإيرانية والأحوازية والأممية، إضافة إلى المساحة التي تحتلها أراضيها نسبة للدولة الإيرانية، وهذا ما يجعل إمكانية انفصالها اليوم وغدًا عن الدولة الإيرانية مسألة شبه مستحيلة.
لم تُنصف السلطات الإيرانية الأحواز وأهله، لا أيام الشاه ولا بعد ثورة الخميني، بل ازداد التعامل مع الأحوازيين عنفًا بعد الثورة الخمينية التي رفعت راية الإسلام الجعفري وسميت باسم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبالرغم من تعاون القيادات الأحوازية مع النضال الخميني ضد الشاه، أملًا بتحصيل حقوقهم، فمذهب أكثريتهم هو المذهب الشيعي الجعفري، خاب أملهم بعد نجاح الخميني واستلامه الحكم. لقد عاملتهم نزعته العنصرية الشوفينية بقسوة أشد من قسوة الشاه، فاعتقل زعماءهم، وأعمل فيهم التقتيل والملاحقات وصنع المجازر، وأهمل تنميتهم ونشر الفقر بينهم، واستمر الوضع بعده على الحال نفسه، سواء زمن الإصلاحيين أو الخامنئيين من نجاد وغيره، وهم اليوم ممنوعون من فتح مدارس تعلم العربية، وممنوع التكلم بها في أي دائرة حكومية، حتى اضطروا إلى تعليم لغتهم لأطفالهم بالمنازل خفية، بل وصل الأمر إلى مضايقتهم بنوع لباسهم، كما حدثني بعض شبابهم عندما رافقتهم لإحياء ذكرى الاحتلال الفارسي الثالث والتسعين.
لقد ناضل الأحوازيون نضالًا مرًا ضد إلحاقهم بالحكم الفارسي وقدموا كثيرًا من الشهداء، وما زالوا، وما زال نظام الملالي يزداد قسوة بالتعامل مع نضالهم ذاك، ولم تلق القضية الأحوازية اهتمامًا عربيًا يُذكر، لا على المستوى الإعلامي ولا على المستوى السياسي، فلم تنتبه لهم جامعة الدول العربية مثلًا ولم يكونوا على أجندة أي مفاوضات عربية- إيرانية لا أيام الشاه ولا بعد الثورة الخمينية، ويبدو أن أصواتهم قد ضاعت بين أصوات القضايا العربية الأخرى كقضية العرب الكبرى “فلسطين”، ومؤخرًا الربيع العربي ومشاكل إجهاضه، هذا عدا عن حرص كثير من المسؤولين العرب على إرضاء سياسات الدول الكبرى ونظامها العالمي وتنفيذ ما أرادته من انكفائهم داخل دولهم وعدم الاهتمام بالقضايا خارجها، وخاصة إذا كانت قضية عربية.
لم يمنع وضع الأحوازيين ذاك من توظيف قضيتهم كورقة سياسية في أي نزاع عربي- إيراني، وإذا كانت السياسات الإقليمية أو القومية تبرر مثل هذه المواقف أيام الحرب العراقية- الإيرانية، وفي الوقت الحالي، لكنها لا ترقى لمستوى الاهتمام الاستراتيجي كقضية أمن قومي بالرغم من أهميتها الكبيرة للأمن الخليجي أولًا وللأمن العربي ثانيًا.
والحقيقة أن مضي ما يقرب من قرن استقرت فيه دول الشرق الأوسط على ما حددته لها مصالح الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى من حدود، يجعل إمكانية استقلال الأقليات الملحقة بها من الإشكاليات الكبرى، كما يفسح المجال لمصالح الدول الكبرى والدول الإقليمية المتنازعة باللعب على دماء أبنائها بحجة عدالة قضيتهم، والمشكلة الأكبر أن المعارضة السياسية الإيرانية لنظام الملالي، داخليًا وخارجيًا، ترفض الاعتراف بعدالة القضية الأحوازية، ويُفترض أن أبناء الأحواز يعرفون ذلك ويحاولون الاستفادة من التحالفات التكتيكية لتحصيل أهداف مرحلية توصلهم إلى بر الأمان.
وأظنهم أدركوا من خلال تجربتهم النضالية المرة مسألتين: أولاهما.. عدم السماح باختراقات نظام الملالي لتنظيماتهم وبث الفرقة بينهم وشرذمتهم واصطناع نزاع بينهم يقضي على طموحاتهم بالحياة الكريمة، وثانيهما.. وعيهم لخصوصية المرحلة، ومعطياتها الدولية والإقليمية ومعطيات الداخل الإيراني ومعارضاته الخارجية.
ذلك الوعي وترجمته إلى خطط تكتيكية واستراتيجية، والالتزام بها، هو وحده الذي يُنقذهم ويجعلهم حذرين من أي طعام يقدم إليهم، ويمكن أن يكون فيه سم نزاعات مستقبلية تقضي على إمكانية تنمية بلادهم وبلاد من ينازعونهم لأنه لن يكون إلا لصالح الجشع العالمي.
القضية الأحوازية مثلها مثل القضايا العربية كلها، وقضايا الشرق الأوسط يجب ألا تخرج عن سيطرة أصحابها وتُصبح تبعًا للمصالح العالمية، ولن يتحقق ذلك إلا بتعاون جميع شعوب المنطقة على قدم المساواة بعيدًا عن العنصرية والأوهام القومية، وبإعلاء المثل الإنسانية، وقيم العدالة والمساواة، ذلك الوعي وتلك المواقف هي فقط ما يضمن الحياة الكريمة لشعوب الشرق الأوسط جميعًا وتُنجيهم من براثن من هندسوا النظام العالمي القديم والجديد.