إبراهيم العلوش
اطمئنوا أيها السادة، فعبد الغفور الشعيب ليس قائد كتيبة يبيع جنوده بالدولار، وهو ليس زعيم عشيرة يبيع ولاءه لعدة جهات متناقضة بآن واحد، وهو ليس شبيحًا، وليس لصًا يسرق المعونات الغذائية، أو يبتز بها النساء، وهو ليس شيخًا يتاجر بالجنة وبالنار ولا يهتم إلا بتمشيط لحيته والكسب من هيبتها.
عبد الغفور الشعيب رجل عادي، لا يقبل بالجلوس إلا مع الناس العاديين والمهمشين، ولا يسمع الأكاذيب، ولا يأبه بها مهما كان بطن صاحبها كبيرًا، ومهما كان طول سيارته أو رصيده في البنك.
عبد الغفور الشعيب (1944-2018) عاش أكثر من سبعين سنة وهو ضد التيار، وضد كل القناعات الجاهزة او المستعارة، ضد الكذب السياسي البعثي المسلح بالمخابرات، والمحروس من قبل المخبرين وقادتهم الأجلاف الذين يتعاملون مع أمهاتهم كما يتعامل القواد مع العاهرة التي تخضع له.
عبد الغفور الشعيب يهزأ بالمتاجرين بالدين علنًا، ويكذّبهم أمام عيونهم وليس خلف ظهورهم، وهو يطلق ابتسامته الهادئة بوجه الشيخ المتدرب بمستمعيه على الخطابة واجتراح المبالغات، ويغادر حتى ولو كان وحيدًا أمامه.
عبد الغفور الشعيب يتجاهل أهل المبالغات الأيديولوجية من الشيوعيين أو القوميين، وينصت إليهم قبل أن يعلن أنه مشغول، ولديه ارتباط، أو يقاطع أحدهم بالقول: هل قرأت الكتاب الذي استعرته من المكتبة أم لا؟
عبد الغفور الشعيب هو من الناس القلائل الذين يتقنون قول “لا”، بسهولة وبحزم، ومهما كانت شخصية من يواجهه أو يناقشه، أو يغريه أو يهدده. ولعل أبرز ما يلخص شخصيته هو هذه الـ “لا” الحاضرة في حياته، وفي كل شؤونه، وهو المستعد أن يتحمل نتائجها مهما كانت قاسية.
عبد الغفور الشعيب، الرجل المسؤول، الذي لم تلوثه المسؤولية، فقد أدار المركز الثقافي بالرقة طوال عقود، ولم يتلوث بماله، ولا بمخبريه، ولم يستسلم حتى عندما أرجعته المخابرات بعد الاعتقال ليعمل موظفًا صغيرًا في المركز، مع عرض إعادته إلى إدارة المركز وقتما يشاء أن يتقرب من معتقليه “الأكارم”.
عبد الغفور الشعيب بنى مكتبة غير مسبوقة في المركز الثقافي بالرقة، وجمع أصحاب الاختصاص والشأن، ليشتروا الكتب المهمة واللازمة للمكتبة، وانتشل المركز الثقافي بالرقة من مركز في مدينة نائية، ومهجورة في السبعينيات من القرن الماضي، إلى أحد أهم المراكز الثقافية في سوريا، إذ كانت نشاطاته تستحضر خيرة النخب السورية من فنانين، وكتاّب، ومسرحيين، وأساتذة جامعيين، وقد أعدّ لهم شباب الرقة للحضور والتفاعل الذي أخصب عددًا كبيرًا من الكتاب، ومن الفنانين، والمسرحيين، ومن هواة العلم والثقافة، والمتابعين الذين يستمتعون برعايته الكريمة لكل الجديين والبعيدين عن التنظير وعن العبث الفكري والسياسي.
قصف النظام المكتبة التي أسهم ببنائها في آذار عام 2013، ودمرها عن بكرة أبيها، عندما كشر النظام عن أنيابه، وخلع ثياب العلم والحضارة والتقدم والاشتراكية، التي كان يتاجر بها طوال مرحلة حافظ الأسد والمخابرات العسكرية، فمرحلة بشار الأسد والمخابرات الجوية أكثر صراحة وأكثر صدقًا في التعامل، وفي إخراج مكنونات النظام وأحقاده الدفينة، التي كان “الأب القائد” يتستر عليها بصمته الصفراوي.
وعندما قابلته في مدينة أورفا التركية بعد فراق، كان أول سؤال له: كيف احترقت المكتبة؟ أما اللوحات الفنية التي تلخص الحياة التشكيلية السورية، فقد سُرقت أمام عيونه، من قبل اللصوص العلنيين، وغير العلنيين الذين استولوا على إدارة المركز الثقافي بعد مرحلة اعتقاله.
عبد الغفور الشعيب حاول جاهدًا زرع روح الفن والثقافة والمعارضة في حياة الرقة وشبابها الذين شقوا طريقهم في مجالات القصة والرواية والبحث والفن التشكيلي، فالفكر السياسي كان ممنوعًا في زمن المخابرات الذي يرتعد من النقاش، ومن المحاسبة، ومن كل هامة لا تركع له.
عبد الغفور الشعيب بموته، غريبًا وبعيدًا في منفاه في أورفا بتاريخ 22 نيسان 2018، وحّد أهل الرقة، ووحّد مثقفي سوريا الذين عبروا الرقة ببحوثهم، أو بلوحاتهم، أو بدبكاتهم الشعبية، أو بقصصهم، وهذه الحالة من التوحيد، لم يحصل عليها لا قائد كتيبة، ولا شيخ دين، ولا شيخ عشيرة، ولا أي منظّر، أو شرعي تقدمي، متورم الذات إلى حد الجنون والاختناق!
تاجر الكثير من المعتقلين باعتقالهم، وكادوا أن يفرضوا على الناس خوّات لهم سواء من المناصب الثورية، أو من الشهرة والزعامة والتبجيل. ولكن عبد الغفور الشعيب قاوم التورم الذاتي، ولم يتاجر بقضيته، فالتواضع سمة حمته من أمراضنا المستفحلة في عشق الذات، وادعاء امتلاك الحقيقة.
ما أحوجنا إلى الالتفاف حول شخصية عبد الغفور الشعيب وأمثاله، الذين يتعالون عن الصغائر، وعن المكاسب العابرة، وعن الغرور المستفحل فينا، رغم الهزائم التي تلحق بنا كل يوم. فعبد الغفور استمرار لجيل مثقفي الخمسينيات وامتداد لشخصية الكاتب والمبدع عبد السلام العجيلي، وللصدفة فإن وفاته تزامنت مع وفاة المثقف والشاعر نورمان الماغوط، الذي توحد بوفاته، أيضًا، الكثير من السوريين، بعيدًا عن الطائفية وبعيدًا عن المكاسب الأنانية، وهذه المصادفة تشابه وفاة الدكتور عبد السلام العجيلي، مع وفاة الشاعر محمد الماغوط الرجلين المؤثرين في الحياة الثقافية السورية بشكل كبير، اللذين توفيا في شهر نيسان أيضًا، ولكن في عام 2006.
ما أحوجنا إلى استرجاع تضحيات شهدائنا، واكتساب العزم من أمثال عبد الغفور الشعيب، الذين يعرفون أهدافهم جيدًا، ولا يتلاعبون بالآخرين، فهؤلاء الناس مهمّون في حياتنا مهما كانوا مغمورين، أو مشهورين، وسواء كانوا مبدعين، أو أعضاء في جمعيات خيرية، او أهلية أو أساتذة في مدارس صغيرة، أو معلمي حرف صغيرة، فالعالم يدمرنا، وكل يوم يزداد دمارنا، ولا نرد عليه إلا بالمزيد من الغرور، الذي لن نجني منه إلا الاستسلام والخيبة.
رحم الله الراحل عبد الغفور الشعيب الذي كان رجلًا فراتيًا عشق الحقيقة، والثقافة، والفن، وعمل من أجل كل السوريين، ولم يبخل علينا بقول “لا” التي يتقنها، وهو قادر على تجرع مرارة نتائجها.