يوم الأربعاء 21 آب 2013
عنب بلدي – العدد 143 – الأحد 16/11/2014
بعد أن حوله الألم إلى شيء يشبه الموت، أدخل يده برزانة جراح أسنان؛ يعرف مركز الألم، إلا أن شعورًا غريزيًا هوى على عقله كمطرقة غليظة مسببة ارتجافًا كاملًا لجسده، فعيناه مغلقتان ترمش كل حين لمسح الظلام الدامس، وتعابير وجهه اُمتصت فتحولت إلى ملمح ثابت، فيما غارت التجاعيد متقلصة نحو الداخل، بينما رعشة الخوف أخذت مجالها الكامل، الى أن أصبحت حرة بشكل مطلق.
فمه المفعم برائحة الالتهاب مفتوح على وسع فكيه، ويده اليمنى العضو الوحيد الذي ذعن له، بإغلاق عينيه أعطى الفرصة لمخيلته في العمل المكثف على استحضار صور ما بعد الحادثة، عندها بدى أقوى من كل شيء لا إرادي لوهلة، واستطاع تجاهل الجنون المنتشر، بغية عدم التأثير على تركيزه الوقور، فمهما كانت نهاية هذه الواقعة مؤلمة، ومهما رأى من صور، إنه مقدم على هذه المخاطرة لا محالة.
لا شيء غير الألم، هذا هو شعوره، وما يجري بعيدًا قليلًا عن غرفته من حرب واشتباكات وأصوات الضجيج الدموي، لم تأخذ أي حيز لها في وعيه أو لا وعيه، الألم، فقط ألم العصب الحسي أسفل ضرسه في كل أنحاء جسده.
وضع المفك تمامًا بين ضرسيه ثم تحسسهما معًا بهدوء، بينما أعطى لهذا الأصبع المعدني ثقة أكبر مما أعطاها لأي عضو من أعضائه في حياته، وما كانت إلا حركة عكسية عرضية واحدة بقوة يده المرسومة بعروقها البنفسجية، لتفقده وعيه.
لسع أنفه بخار الصديد اللزج المالح، ففتح عينيه، الأحمر في كل مكان – قال، ثم أغمضهما وصمت دون أن يغفى حتى ليظن أنه يحلم مستيقظًا.
هدوء تام بعد تنهيدة الخلاص، توفير كامل في كل الموارد الحيوية واستراحة لكل تكوينه المادي والنفسي، من كل شيء… سكون كامل في الروح.
تصاعدت وتيرة القصف خلال عمليته الخرافية، وعندما كانت أصوات القذائف تسمع كأسراب من الطائرات تهبط في شوارع الحي المقيم فيه، تغلغل زخم الضجيج في حواسه، وعند تصاعده الذي تحول إلى فوضوي أكثر من ذي قبل، أتخمت، حتى فاضت وصمتت، فكان لابد له من التصرف.
كان قد مر على الحصار المطبق على الحي الذي يقيم فيه ستة أشهر، فرغم علمه بأن ذهابه إلى المستشفى الميداني لن يساعده بشيء، إلا أن الحالة المزرية التي بدأت تسبب الفزع له والتي أخذت منحى جديًا وخطيرًا أكثر، أعطته عذرًا للمحاولة ولو عبثيًا.
استجمع قواه واتجه إلى المستشفى القريبة من منزله، واتخذ الحائط سندًا لكتفه، كان يمشي فقط بإرادته الموجهة من قبل جدران الأبنية، وملابسه ملتصقة بجسده من الدماء، وهناك أيضًا عدة مراكز في وعيه مازالت نائمة، لكنه بدأ يرى بصورة أوضح، رأى الحديقة خالية وقد أخمد نيرانها النسيان، والشارع فارغًا من الحياة، والركام الهائل المنتشر في كل مكان، كهوف سوداء وممرات وعرة.
شعر بدوران السماء وثباته، ثم شعر بدورانه حول نفسه وطلبت الجاذبية أضعاف وزنه ليبقى واقفًا؛ ولم يستطع السقوط كون إنسانيته حية بما يكفي لتمنعه من ذلك، استمر بطريقه لكن شيئًا مُرًا مختلفًا طغى في جسده، فرائحة هذا الصمت كبريتية. ولم يكن يعرف مما هو خائف أكثر، من حالته الشبحية أم من هذا الصمت اللجوج؟ لا بد أن كارثة قد أصابت الحي الليلة السابقة، قال أحدهم بصوت لا يسمع بل يكاد يُرى، أجابه: يبدو أن العناية الإلهية قد ماتت، والتفت لينظر إلى من يحادثه فلم ير أحدًا.
بدأت الأبنية بالتمايل والطريق أخذ منحنى لولبيًا، لكنه ما زال يرى مدخل المستشفى، فواصل السير بدوامة الشارع وسط الهدوء المتعاظم. طرق الباب عدة مرات متتالية وكان واضحًا من اختفاء الضوء خلف الباب أن أحدًا يعلم بوجوده، ويتردد في فتحه، صرخ لكنه لم يسمع نفسه قال: افتحوا لي، فأنا أريد أن أعرف ماذا حصل هنا؟، أرخى قائمتيه قليلًا، فُتح الباب.. نظر إلى الأعلى ليرى أحدهم شبه بشري. نعم إن له جسدًا بشريًا لكن رأسه فضائي ضخم، وأجرد بعينين كبيرتين زجاجيتين، وفم دائري بلاستيكي بارز بلونه الأسود، بلا شعر، ولونه أخضر كئيب، يشعرك بكل المآسي المريرة، ماتت إنسانيته فسقط.
ضغط مرتفع داخل أذنيه، صمت مائي، سكون مختل، ثم تشويش ضعيف مع قليل من الضوء، غباشة في العينين، حركة كثيرة الأصوات، خطوات راكضة تنتهي بصرخات، بدأ يسمع من جديد مع عودة النظر بشكل أوضح، بدأ يرى من جديد، هنالك بشر يرتدون الأبيض.. «إنني في المستشفى» سر في نفسه، ثم دماء فوق الأرض فاتحة اللون، أكمل «شيء طبيعي، حسنًا»، ثم رأى على اتساع أرضية المستشفى أجسادًا تختلج وأخرى هامدة لأطفال، والأطباء وغيرهم يرشونهم بالمياه، قوة عنيفة مستعجلة هزت جسده شيئًا ما، غير وضعيته المستهترة المستسلمة، وضوء مزعج داخل عينيه، يقترب الضوء أكثر ويتناوب على عينيه بنظارته الغليظة، نعم الآن قد سمع، الطبيب يقول أنه حي، تحرك قليلًا كرد فعل طبيعي، فشرعوا برمي الماء فوقه، تمهلوا إنني أختنق -قال- لكن لم يسمعه أحد، تمهلوا قليلًا، إنني أختنق –كرر وهو يحاول النهوض- لكنه لم يشعر بتحرك أي جزء من جسده، هدأ قليلًا وقال مرة أخرى بقوة أكبر كمن استجمع كل قواه بصرخة واحدة: لن أقلع مرة أخرى.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :