صار ممّا يشبه البديهيّ الكلام عن التخلّي الغربيّ، وخصوصاً الأميركيّ، بوصفه أحد أسباب الإخفاق الذي أصاب الثورات العربيّة.
وهذا الربط، الصائب، بين مصائر الثورات وتخلّي الغرب، إنّما ينمّ، هو أيضاً، عن مدى الترابط بين أجزاء كوكبنا. إلا أنّه، وبالقدر ذاته، يشير إلى مدى التباين والتفاوت داخل الترابط المذكور. فالعالم واحد وكثير في الوقت عينه.
ومن دون إدراك هذه العلاقة المركّبة، تكاملاً وتبايناً، يبقى تناول الموقف الغربيّ أقرب إلى تعميم أخلاقيّ قد يدفعه البعض إلى سويّة التأويل التآمريّ.
التخلّي الغربيّ، كما افتتحه وعبّر عنه باراك أوباما، جاء مثقلاً بتجربتي العراق وأفغانستان اللتين سبقتا رئاسته، ثمّ بالتدخّل العارض في ليبيا إبّان تلك الرئاسة (والذي عاد أوباما لينتقده وينسبه إلى ضغوط أوروبيّة عليه). لكنّه، في أغلب الظنّ، جاء أيضاً محكوماً بعناصر أخرى لا يفيد التلخيص في النظر إليها. أحد أبرز هذه العناصر ربّما كان ارتسام صورة عن «الثورة» أصيب الوعي الغربيّ بالتثبّت عليها وباعتبارها هي هي الثورة: إنّها إسقاط الأنظمة التوتاليتاريّة في أوروبا الوسطى والشرقيّة في موازاة تفكّك الإمبراطوريّة السوفياتيّة.
الثورات تلك لم ترتّب أكلافاً تُذكر على غرب خارج لتوّه من حرب باردة مكلفة. وهي، باستثناء الحالة اليوغسلافيّة، الما بعد عثمانيّة، لم تؤدّ إلى حروب أهليّة ولم تستجرّ منازعات إقليميّة ودوليّة. في هذا المعنى، كان الاستثناء اليوغسلافيّ عامل توكيد للقاعدة، علماً بأنّه هو نفسه أقرب إلى أن يكون القاعدة في الشرق الأوسط الما بعد عثمانيّ بدوره. وفي وقت لاحق، ولأسباب تتّصل أيضاً بالتركيب المجتمعيّ، جاء النجاح النسبيّ في تونس من بين تجارب الشرق الأوسط، بوصفه الاستثناء عندنا، فيما كان هو نفسه الأقرب إلى القاعدة في أوروبا الوسطى والشرقيّة.
يوغسلافيا الاستثناء الأوروبيّ الذي يشبه القاعدة عندنا. تونس الاستثناء العربيّ الذي يشبه القاعدة عندهم.
هذا الانتباه الأوباميّ إلى التفاوت كان، بمعنى ما، ردّاً على عقيدة «المحافظين الجدد» التي سادت عهد جورج دبليو بوش وحروبه. معهم، كانت اليد العليا لمبدأ «نشر الديموقراطيّة»، تكراراً لما حصل في اليابان وألمانيا الغربيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، ثمّ في أوروبا الوسطى والشرقيّة بعد الحرب الباردة. لقد رأى «المحافظون الجدد» في كلّ تذكير بالتفاوت، أجاء من بيئة الديموقراطيّين «اليساريّين» أو من بيئة الجمهوريّين «اليمينيّين» من دعاة «الواقعيّة» الكيسنجريّة، رجعيّةً تتاخم العنصريّة.
وإلى انعدام الأكلاف والمخاطر والمواجهات، الأهليّة والإقليميّة، انطوت ثورات أوروبا الوسطى والشرقيّة على مضامين تقرّبها من النموذج الغربيّ وتقطعها عمّا بات، منذ أكتوبر 1917 الروسيّ، «التقليد» الثوريّ الأوحد.
فثورات 1989 – 91 جعلت الغرب الرأسماليّ والديموقراطيّ يستحوذ مجدّداً على «الثورة»، بعدما عاشت لعقود بوصفها مشروعاً مناهضاً له.
فالمدينة، لا الريف، هي قاعدة الثورة الجديدة التي لم تعرف التنظيم الحزبيّ الحديديّ، ولا القائد الملهم. وهي، في أدبيّاتها، نبذت العنف وأكّدت السلميّة، وحتّى حين انشطرت تشيكوسلوفاكيا إلى شطر تشيكيّ وآخر سلوفاكيّ، تمّ ذلك من دون إراقة دم. كذلك لم تعمد تلك الثورة إلى مدّ نطاق الدولة في ثنايا المجتمع، بل اعتنقت الديموقراطيّة السياسيّة واقتصاد السوق، كما عزّزت مبدأ «المجتمع المدنيّ» بوصفه المقابل للدولة، الحادّ من سطوتها، متخفّفةً من الجيوش والعسكرة، ونابذةً لانغلاق «الستار الحديديّ» طلباً منها على دفق السلع والأفكار. الطريق هذه ما لبثت أن قادتها إلى الانضمام إلى حلف الناتو والاتّحاد الأوروبيّ.
وبعد أنّ تقدّمت الثورات القديمة بوصفها استئصالاً لشرّ جماعيّ (طبقة بعينها وأحياناً أمّة بعينها)، فإنّ الثورات الجديدة ناهضت أفراداً بعينهم هم المسؤولون عن القتل والقمع والفساد وجاءت بهم إلى المحاكم.
هذه العناصر لم تفتقر إليها ثورات «الربيع العربيّ»، لا سيّما في طورها الأوّل. بيد أنّها كانت أضعف من أن تمضي بالثورة إلى نهايات ظافرة. أمّا أنّ التخلّي الغربيّ، المسكون بالنموذج الأوروبيّ كنموذج أوحد للثورة، زاد تلك البدايات الثوريّة في بلداننا ضعفاً على ضعف، فهذا بدوره مؤكّد…