تنشط موسكو للرد على الضربة الثلاثية كما كان متوقعاً. تريد تحميل واشنطن وباريس ولندن مسؤولية الوضع الجديد في سورية. فهي لا تجد فرصة لحوار مع الدول الغربية لتسوية سياسية في بلاد الشام. وزير دفاعها سيرغي شويغو أبلغ المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا أن الضربة أضرت بعملية السلام. بل إن زميله وزير الخارجية سيرغي لافروف أعلن الاستعداد لتزويد دمشق بصواريخ «إس 300». تخلت بلاده عن وعدها الغرب بعدم إبرام هذه الصفقة. أما نائبه سيرغي ريابكوف فحذر من التقسيم. يعني ذلك أن لا أمل بأن تثمر الجولة الحالية للمبعوث الأممي في تحريك مسار جنيف الذي تنادي به الولايات المتحدة والدول الأوروبية. بل يستعد «ثلاثي آستانة» إلى عقد جولة محادثات بعد نحو أسبوعين تستدعيها الخريطة الجديدة. فتركيا تريد ترسيخ حضورها في عفرين. ومثلها يرغب حليفا نظام الرئيس بشار الأسد في استثمار نتائج إخراج الفصائل المسلحة من الغوطة. ويستبق الأطراف الثلاثة لقاء وزراء أوروبيين وممثلين عن أميركا في بروكسيل أواخر الشهر المقبل للبحث في الأزمة السورية.
ثمة مشهد عسكري آخر يترافق مع هذه المواقف. فالنظام وحلفاؤه يستعجلون استثمار ما تحقق في الغوطة بفتح الجبهة الجنوبية. وإذا تحقق لهم ذلك لا يبقى لهم سوى الصعود شمالاً لمطالبة تركيا بإخلاء مواقعها شمال سورية وفتح معركة إدلب. وإذا استعجل الرئيس دونالد ترامب سحب قواته سريعاً من شرق سورية وشمال شرقها يمكن إيران أن تنفذ تهديداتها بت «تحرير» هذه المناطق. عندئذ تزول مخاوف ريابكوف من تقسيم سورية. والواقع أن كلاً من روسيا وإيران أقلقهما بلا شك إعلان الرئيس رجب طيب أردوغان عشية «الضربة الثلاثية» حرصه على التحالف مع الولايات المتحدة حرصه على التنسيق مع موسكو. وهما تعرفان جيداً أن أنقرة لا يمكن أن تتنازل عن مناطق انتشارها شمال سورية. بل لا يمكن أن تسمح بانتزاع إدلب من بين يديها. لأن ذلك يعني ببساطة إلغاء أي دور سياسي لها في أي تسوية مستقبلاً. في حين لا تزال تأمل بالتوصل مع واشنطن إلى تفاهم قد يكون نموذجياً إذا تمكنت من تغيير تركيبة «قوات سورية الديموقراطية» قيادة وعناصر بحيث تخبو سيطرة الحزب الديموقراطي الذي تتهمه بأنه فرع لحزب العمال الكردي. وهي بذلك توفر على حليفها الأميركي معضلة ملء الفراغ بعد انسحابه. وهي تطمح إلى أبعد من ذلك. لا تخفي عزمها على دخول جبل قنديل شمال العراق، معقل حزب عبدالله أوجلان، لعلها تعود إلى إحياء المفاوضات لحل المشكلة الكردية. وهي تعلم جيداً أن ثمة هدنة بين هذا الحزب وطهران تمتد من الأراضي الإيرانية وحتى شمال سورية منذ قيام «دولة الخلافة» في الموصل.
وإذا كانت رغبة النظام وحليفه الإيراني في التوجه شمالاً تبدو عصية وصعبة، في ضوء هذا الواقع، فإن السعي إلى التقدم جنوباً قد يكون أكثر صعوبة. ثمة تفاهم أميركي – روسي – أردني لا يزال سارياً. ولا مصلحة لموسكو في تجاوز هذا التفاهم. فإذا كانت الولايات المتحدة «التزمت الخطوط الحمر» التي حددتها لها روسيا، كما صرح لافروف، فمن باب أولى أن تحافظ هذه على «خطوط» هذا التفاهم. لن يكون مسموحاً لقوات إيرانية أو ميليشيات حليفة بالاقتراب من الحدود الجنوبية. إسرائيل التي تستعد لاحتمال عملية ثأرية تنفذها الجمهورية الإسلامية رداً على ضرب مطار تيفور ومقتل ثمانية من «الحرس الثوري» تكرر يومياً بأنها لن تقبل بقواعد إيرانية في بلاد الشام، فكيف يمكن أن تغض الطرف عن قاعدة على مشارف الأرض المحتلة! أما نشر قوات تابعة للنظام في مناطق الجنوب فيستلزم تفاهمات ليست سهلة مع عمان وتل أبيب، ومع واشنطن. علماً أن هذه شنت في شباط (فبراير) الماضي غارة قاسية على ميليشيات اقتربت من دير الزور كانت كافية لرسم «خط أحمر» لدمشق وحليفتيها.
إثارة التحرك نحو الجبهة الجنوبية يختلف تماماً عن مثيله شمالاً. يندرج هذا في إطار سياسة إيران ونفوذها في المشرق العربي من بغداد إلى بيروت. أوفدت قبل أيام وزير الدفاع الجنرال أمير حاتمي إلى العاصمة العراقية حيث عقد مسؤولون عسكريون وأمنيون من روسيا وإيران والعراق وسورية اجتماعاً لترسيخ «الرؤية المشتركة» في مواجهة التهديدات التي تواجه هذه البلدان، كما صرح حاتمي. وكذلك للاستعداد لاحتمال انسحاب القوات الأميركية من شرق الفرات. بالطبع تسعى موسكو إلى تمتين علاقاتها مع طهران كلما تشددت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية حيال دورها في سورية وسعيها إلى استعادة ما كان لها أيام السوفيات أياً كان الثمن. في حين أن زيارة الوزير الإيراني تندرج في إطار التنسيق حيال أي هجوم غربي أو مواجهة مع إسرائيل قد تتعرض لهما قواعد بلاده في سورية. وفي إطار الاستعداد لمواجهة التهديدات التي تحوط بدور طهران وحضورها في في هذا البلد. وكذلك لمواجهة ضغوط الرئيس ترامب وتلويحه بالخروج من الاتفاق النووي.
ولا شك في أن ثمة مصلحة لكل من روسيا وإيران في قيام «حلف رباعي» في بغداد لمواجهة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. فسياسة الرئيس الأميركي التي يكتنفها الغموض والتخبط والتناقض تقلق هذين البلدين حيال النيات الحقيقية للإدارة الأميركية. فهل يعقل أن يخلي الساحة لهما فيما لا يترك وسيلة لتأكيد نياته الحد من نفوذهما وتمددهما في بلاد الشام وغيرها؟ أم إنه عازم على إرباكهما وإرغام شركائه المعنيين بأزمة سورية على تحمل تبعات المواجهة والمساهمة في الحفاظ على مصالح بلاده وبلادهم في المشرق العربي؟ أم إنه يغامر بإخلاء الساحة لإسرائيل التي تتوعد الجمهورية الإسلامية، وتعلن كل يوم أنها ليست معنية بأي تفاهمات، وأن ما يهمها هو الحفاظ على «أمنها ووجودها»؟ ويشارك موسكو وطهران هذا القلق بعض أركان الإدارة والكونغرس فضلاً عن الشركاء الأوروبيين الذين يخشون أن يؤدي إلغاء الاتفاق النووي إلى صعود التيار المتشدد في الجمهورية الإسلامية. وهو تيار يرى قد لا يتردد في خوض مواجهة واسعة في الإقليم كله من أجل إعادة تمكين قبضته على السلطة في الداخل الذي يعاني من صراعات سياسية واضطرابات اجتماعية واقتصادية تهدد النظام.
تعتقد دوائر غربية أن سياسة حافة الهاوية التي مارسها سيد البيت الأبيض وتلويحه بحرب مدمرة مع بيونغ يانغ لم يكن هدفها المواجهة العسكرية المفتوحة بل ممارسة الحد الأقصى من الضغوط التي انتهت بترتيب قمة بين الزعيمين الأميركي والكوري الشمالي. وثمة مساع حثيثة بذلها ويبذلها روبرت وود مساعد وزير الخارجية لشؤون نزع السلاح مع مسؤولين من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا للتوصل إلى «اتفاق تكميلي» للنووي من أجل سد «الثغرات» الكبيرة فيه، كما تعتقد واشنطن، ولتعديل سلوك الجمهورية الإسلامية وسياستها في الإقليم، وضبط برنامجها الصاروخي. وإذا كان ترامب يمارس الحد الأقصى من التشدد حيال إيران من أجل انتزاع اتفاق مرضٍ مع نظيره الكوري الشمالي، فلا يستبعد أن يلجأ إلى تأجيل تهديده بالانسحاب من الاتفاق إذا توافقت الدول الأوروبية الثلاث مع روبرت وود على جملة من الخطوات التي تبرر له مثل هذا التأجيل. يبقى السؤال عن موقف إيران. فهي بقدر ما أقلقتها «الضربة الثلاثية» أثارها بالتأكيد التفاهم المسبق بين الولايات المتحدة وروسيا على حدود هذه الضربة. ولا يروقها الحديث عن قوات عربية لملء الفراغ الذي قد تخليه القوات الأميركية شرق الفرات. كما لا يمكنها التغاضي عن الغارات الإسرائيلية التي تستهدفها من وقت إلى آخر. نادت في السابق إلى تفاهم ثلاثي مع بكين وموسكو، وهي تسعى اليوم من بغداد إلى «حلف رباعي». فهل تنجح في رفع التحدي أم توسع «سياسة الصواريخ»؟