تتداخل في سوريا، هذه الأيام، سيناريوهات خمسة مكررة، تعود في معظمها إلى حقبة الحرب الباردة. وأحدها فقط، مرتبط تحديداً، بحقبة التسعينات. وقد يكون الفريد في المشهد السوري، أنه يتضمن تفاعلاً بين أكثر من سيناريو، سبق أن عاشه العالم. ولا يبدو أن صانعي القرار المرتبطين بهذه السيناريوهات، يخشون الوقوع، مجدداً، في سلبياتها. ربما هم يراهنون على تجنب تلك السلبيات، وتعظيم الإيجابيات. بمعنى تكرار التجربة، مع ميزة التعلم من سابقتها.
بعض تلك السيناريوهات بات في مراحل متقدمة، بحيث أصبح مرجحاً. فيما بعضها الآخر ما يزال في طور التأسيس، وإن كانت المؤشرات الأولية تؤكد أنه في طريقه للتحقق.
أحد هذه السيناريوهات، الرفع من منسوب الصراع السُني – الشيعي، إلى مستويات تكاد تكون مباشرة، بين الأطراف الكبرى في هذا الصراع. إنه سيناريو حرب العراق وإيران في الثمانينات، مرشح للتكرار بقوة في شرق سوريا، لتكون السعودية، هذه المرة، هي رأس حربة “العالم السُني”، في مواجهة إيران الشيعية.
يظهر المسؤولون السعوديون حماسةً كبيرة للتورط في هذا السيناريو. ورغم أن تجربة حرب الثمانينات بين إيران والعراق أثبتت أن الطرفين تضررا بصورة نوعية، فيما كان الغرب الداعم للعراق حينها، المستفيد الرئيس، لا يبدو أن السعوديين يخشون الوقوع في هذا المنزلق. لا نعرف هل هي ثقة بالأمريكيين؟، أم قناعة سعودية بقدرتهم على تجنب الانجرار إلى حالة استنزاف مادية وبشرية في سوريا، شبيهة بتلك التي انجر إليها العراق خلال حربه مع إيران؟.. لكن، ما يظهر جلياً، هو أن السعوديين يريدون تعظيم نفوذهم الإقليمي، حتى لو كان ذلك يعني التورط العسكري المباشر. أو أنهم في الحدود الدنيا، مضطرون للانجرار وراء الرغبة الأمريكية بالانسحاب من المنطقة، وتقليل التورط المباشر فيها، لذا فالسعوديون مضطرون لملء الفراغ الأمريكي، كي لا يكون البديل، إيرانياً.
عند النقطة الأخيرة، تظهر ملامح سيناريو آخر، سبق أن عرفناه في الحرب الباردة. فقبل العام 1990، تاريخ غزو صدام للكويت، لم تعرف منطقتنا تورطاً أمريكياً مباشراً. كانت الصراعات الإقليمية، بدعم أمريكي. وكانت إسرائيل رأس الحربة في مواجهة دول الطوق العربي المدعومة سوفيتياً، حينها. ولاحقاً، بات العراق في عهد صدام، ومن ورائه دول الخليج، رأس الحربة في مواجهة إيران الشيعية. لم تكن واشنطن تتورط في هذه الصراعات بشكل مباشر، إلا ما ندر، وبحدود. وكانت قادرة على تعظيم نفوذها في المنطقة، عبر إدارة الصراعات، ودعم الحلفاء، دون الحاجة لجلب مقاتليها وأساطيلها الحربية، إلا في ظروف محدودة الزمان والمكان.
يبدو أن الأمريكيين يريدون العودة إلى هذا السيناريو تحديداً. ورغم الانخراط الروسي المتفاقم في سوريا، يراهن الأمريكيون على الحلفاء في المنطقة، للحفاظ على مصالحهم ونفوذهم فيها. ومن هنا، يتم الحديث عن بناء قدرات دفاعية وقتالية خاصة للحلفاء، وفي مقدمتهم السعوديون، بصورة رئيسية. وفيما يسعى الأمريكيون لضم مصر، في هذا السيناريو، من المبكر بعد الجزم بالخط الذي سيتخذه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، حياله، خاصة أن مصر ميالة في عهده، لأن تضع قدماً في المحور الأمريكي، وآخر في المحور الروسي المتعاظم، في الشرق الأوسط.
أما السيناريو الذي تلوح ملامحه بقوة، هذه الأيام، فهو سيناريو ميلاد وصعود حزب الله في لبنان، بوصفه، تعبيراً عن النفوذ الإيراني الميداني في هذا البلد، ورأس حربة إيراني متقدم، على الحدود الشمالية لإسرائيل. يتكرر هذا السيناريو، بوتيرة متسارعة، في سوريا. لا يعني ذلك أننا سنرى بالضرورة، “حزب الله” جديداً في سوريا. لكن، النفوذ الميداني الإيراني، وما يعنيه من تهديد للجبهة الشمالية الإسرائيلية، هو ما نقصده بتكرار هذا السيناريو. وهو أمر يبدو أن الإسرائيليين دخلوا، متأخرين، على خط مكافحته. يبدو جلياً أن الإسرائيليين وقعوا في الخطأ الذي ارتكبوه، يوم ميلاد وصعود حزب الله. إذ تعاملوا مع خطره، بصورة توازي نوعية وحجم هذا الخطر، الأمر الذي لم يتح لهم الوقت الكافي لإجهاضه، فتفاقم هذا الخطر، حتى خرج عن السيطرة، وأصبح أمراً واقعاً، اضطر الإسرائيليون للتأقلم معه في لبنان. وتم ذلك بعد ثلاثة حروب مكلفة، كان آخرها، أكثرها كُلفة حيال حالة الثقة المعنوية في أوساط الإسرائيليين.
يعلم الإسرائيليون اليوم، أن خطر حزب الله اللبناني، يُستنسخ في سوريا، بوتيرة أكثر سرعة، وربما، أكثر نوعية، بمراحل. وسيصبح هذا الخطر غير مسبوق، لأنه سيوسع الجبهة التي يمكن من خلالها استهداف إسرائيل. ولا يبدو أن الإسرائيليين يملكون وسائل كافية لإجهاض هذا الخطر، في الوقت الراهن، سوى، تكرار سياستهم، حيال حزب الله، خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، والنصف الأول من العقد السابق. أي، توجيه ضربات نوعية، وربما، التورط في حروب مكلفة، كل بضع سنوات، على أمل تأخير تفاقم هذا الخطر. إلا أن تجربة حزب الله، تؤكد أن هذا السياسة لا تفعل شيئاً، إلا تأخير الخطر، وليس إجهاضه، ولا حتى، لجمه.
ومن السيناريوهات المستنسخة من حقبة الحرب الباردة، التي تعيشها سوريا هذه الأيام، هو سيناريو التقسيم، على أساس مناطق النفوذ. وكما قُسّمت ألمانيا وكوريا، بعد الحرب العالمية الثانية، بعد منازعات شرسة، ويأس من الوصول إلى تسوية بين اللاعبين الكبار، يبدو أن سوريا في طريقها نحو الطريق نفسه. وهو سيناريو تقسيم غير مستقر، ولا يؤمن حالة شبيهة بتلك التي عرفتها الدول التي نشأت كنتيجة لاتفاق سايكس بيكو الشهير. هو تقسيم ناتج عن عدم وجود تسوية، لذا هو تقسيم غير مستقر، وأساس للصراع الدائم المتجدد. وخطوطه معرضة للتعديل، وربما للانهيار المفاجئ، إن تغيرت موازين القوى الدولية أو الإقليمية الكبرى الحاكمة للمشهد السوري، اليوم.
سوريا، تلك البقعة الصغيرة من الشرق الأوسط، تختصر هذه الأيام جملة من السيناريوهات التي عاشها العالم خلال العقود الستة الماضية. والمشكلة الأكبر، أن التفاعلات بين هذه السيناريوهات التي تتطور داخل بقعة محدودة، بصورة متجاورة، ومتداخلة، تؤهلها لأن تكون مرشحة بقوة، للخروج عن السيطرة. لذا، في سوريا، كل شيء ممكن. فيما أن أكثر السيناريوهات خفوتاً، أن تحصل تسوية إقليمية – دولية كبرى، تنهي الصراع في هذا البلد، وتُحيله ربما إلى حالة لبنانية جديدة، حيث تتشارك أقطاب داخلية عديدة السلطة، كل منها يعبر عن لاعب خارجي فاعل.