حذام زهور عدي
بلهجة هادئة، تكلم السيد ماكرون، رئيس فرنسا، عن الضربة العسكرية التي قررها الثلاثي الغربي عقابًا للأسد الكيماوي، رغم أن تصريحاته المشهورة أمام جمهور المنتخبين كانت واضحة بإدانة أي استخدام أسدي للسلاح الكيماوي، وقد دفعه حماسه ذاك لإعلان موقف حاسم بأنه “مستعد لضربه عسكريًا حتى لو كانت فرنسا وحدها”، وقد كرر ذلك أمام بوتين في أثناء زيارته لقصر فيرساي.
اللهجة الحماسية اختلفت اختلافًا ملموسًا، فقد كان من أكثر المسؤولين وضوحًا حول حيثيات الضربة في الكلمة التي ألقاها عشية توجيهها أو بعد الاتفاق مع الحلفاء واتخاذ القرار، إذ ذكر في كلمته أنواع المواقع المستهدفة، والغرض السياسي المرجو من هذه الضربات، وطمأن حلفاء النظام السوري بتجنب مواقعهم العسكرية في سوريا، والأغرب أنه بطريقةٍ غير مباشرة طمأن “الجيش السوري” لعدم استهدافه بحجة ضمان عدم الفوضى بعد تلك الضربات.
وأضافت وزيرة الدفاع، تأكيدًا لما قالته السيدة نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة، أن هذه الضربات ليست موجهة لإسقاط الأسد، مع أن الدبلوماسية الفرنسية عمدت إلى الإعلان عن سحب الوسام الفرنسي الذي قلده جاك شيراك للأسد سابقًا، وهذا بالعرف السياسي أمرٌ لا يُستهان به.
في التحليل للموقف الفرنسي الهادئ، والمبتعد بنسبة ليست كبيرة حول ما قاله حلفاؤه عن الضربة، لم يكن السيد ماكرون الأكثر صدقًا أو دبلوماسية فقط، إنما كانت له توجهات ومصالح مختلفة، فقد كان يصبو للعب دور سياسي أقوى مستقبلًا يستطيع من خلاله إعادة الأمجاد الفرنسية بعد تهميش الولايات المتحدة لها وصعود بوتين، من جهة، والتراجع الاقتصادي من جهة أخرى، والوضع الداخلي المضطرب ثالثًا، ولذا كان التفاوض الروسي- الأمريكي يجري من خلال الدبلوماسية الفرنسية لتجنيب السلطة الأسدية الضربة كما حدث سابقًا مع الرئيس أوباما، أو التخفيف منها ما أمكن، وربما توصلت السياسة الفرنسية إلى وعود روسية بحلحلة الموقف السوري من موضوع الحل السلمي الذي يعمل عليه الفريق الغربي وبعض الدول الإقليمية الحليفة، وتوصلت إلى قناعة بأن تخفيف تأثير الضربة يُفترض أن يتناسب مع تلك الوعود.
لم يعد غامضًا أن مقولة “الحرب استمرار للسياسة” تجلت تمامًا بهذه الضربات وبأبسط حالاتها، إذ سرعان ما جرى الحديث عن ضرورة إحياء المفاوضات بين المعارضة السورية والسلطة الأسدية، وفق مرجعية الأمم المتحدة وقرار جنيف”1”، لقطع الطريق على التفرد الروسي بالحل السوري أولًا، وإخراج إيران من سوريا أو تحجيم وجودها على أقل تقدير ثانيًا، وتذكير الدولة صاحبة النفوذ الأقوى في سوريا بالحصة من الكعكة السورية ثالثًا.
وقد قدمت الدبلوماسية الفرنسية نفسها للقيام بهذا الدور عبر مبادرات تحدثت سابقًا عنها، وأعادت إحياءها بعد الضربات، مضيفة أنها ستناقشها مع بوتين في أثناء الاجتماع القريب المقبل مع الخمسة المعنيين بالوضع السوري، وهم الثلاثي الضارب مضافًا إليهم الأردن والسعودية.
ومن نافل القول إن فرنسا متفقة في هذا مع الموقف الألماني ودول أوروبية أخرى، وبمعنى آخر-كما سبق- تحاول إعادة الصوت الأوروبي إلى الواجهة وإنهاء تهميشه، وبصرف النظر عن إمكانية نجاح الدبلوماسية الفرنسية في تحقيق هذا الهدف والسماح الأمريكي لها بالقيام بذلك، فإن بوتين لن يسمح لها بتحقيق هدفها هذا دون أن يقبض ثمنًا مرتفعًا لا يتجلى في سوريا فقط وإنما على مستوى توزيع النفوذ عالميًا، مما ليس في قدرة القرار الأوروبي أن يُعطيه إياه، إلا أن الأوروبيين يلعبون دورًا في رفع العقوبات الاقتصادية عنه ورفض الإقرار بعقوبات جديدة كما يريد السيد ترامب، والحقيقة هذا ما تقوم ألمانيا وفرنسا به، فاستثماراتهما غير البسيطة في روسيا لا تسمح لهما بغير ذلك، وربما هذا أحد مآزق “القضية السورية”.
لكن السؤال المبرر هنا: هل كيفية تنفيذ الضربات العسكرية تلك، والتي أحاطها كثير من اللغط، مناسب للأهداف السياسية المرجوة أوروبيًا وأمريكيًا منها؟
عندما يُفترض أن الضربات لم تهدف إلا أن تكون رسائل سياسية، يمكن القول إنها حققت إلى حدٍ ما الهدف منها، أما إذا كان الهدف -كما قيل إعلاميًا- عقاب الأسد والقضاء على إمكانياته الكيماوية بحيث لا يستطيع القيام بمثل هذه الهجمات مرة أخرى، فغالب الظن أنهم لم يحققوا الكثير مما أعلنوه.
إن الوضع المرتبك لما أُعلن وما نُفذ سمح للإعلام الروسي والإيراني- الأسدي أن “يهوبر بالانتصار على العدوان الثلاثي”، سارقًا الموقف التاريخي لمصر عام 1956، والمؤسف أن كثيرًا من أصدقاء الثورة السورية وقعوا في فخ ذاك الإعلام، واستهانوا بالضربة استهانة أوحت بعدم قدرة الحلف الغربي على التأثير بالقضية السورية، أو عدم رغبتهم بنصرة الشعب السوري، كما كان هذا الشعب المجروح يأمل.
المشكلة المستمرة في عقول بعض النخبة الثورية أنها تطلب من الحلف الغربي بل أحيانًا من روسيا التي تقصف وتلعب على حبال لا يعرف عددها إلا الله أن يحققوا لها انتصار الثورة المرجو، مع أنه أصبح من الواضح جدًا أن الأمر لو كان كما يصدره الإعلام الغربي صعودًا وهبوطًا لما وصلت حال الثورة إلى ما وصلت إليه، ولا داعي مطلقًا لحالة القنوط التي يعمد إعلام الأسد وحلفائه نشرها، ورددتها شريحة من الكتاب وإعلاميي الثورة بالاستهانة بالضربات وتصويرها كأنها دغدغة أطفال.
لقد كانت الضربات متناسبة مع الأهداف الحقيقية -غير الإعلامية- التي حددها أصحابها، وعلى القيادة السياسية للثورة أن تستيقظ من سباتها وتستفيد من تقاطع المصالح في هذه المرحلة، وعلى هيئة المفاوضات أن ترى جيدًا المواقع الجديدة التي على أقدامها أن تقف عليها، وتعطي القوس لباريها وتستعين بالخبراء المحنكين لخوض المفاوضات المقبلة، علَها تستطيع تحسين شروط الحل وتحقيق شيء يتناسب جزئيًا مع الحجم الهائل لتضحيات الشعب السوري.